عكست مجريات الانتخابات البلدية الجزئيّة في باردو الأزمة الخانقة التي تمرّ بها التجربة الديمقراطيّة الناشئة في بلادنا. ففي كلّ الصور الوضعيّة ليست على ما يُرام وصناديق الاقتراع والصفوف أمام مكاتب الانتخابات فقدت الكثير من رونقها وجاذبيّتها. اذ لا اختلاف في أنّ نسبة المشاركة التي انحصرت في مستوى 12 ٪ مُخجلة ومحيّرة في آن. نسبة مخجلة للنخبة السياسية والأحزاب المؤتمنة على رعاية المسار الديمقراطي وتنمية الحس المواطني وتعزيز حجم المشاركة السياسية للمواطنين وتأطير مساهمتهم في فرز الخيارات الانتخابية والبرامج وتصعيد الكفاءات القادرة على إدارة الشأن العام محليّا وجهويّا ومركزيا. فلا مناص أمام هذه النخبة وهذه الأحزاب بعد ما جرى إلاّ الإقرار بعجزهما عن التعبئة ودفع الناس الى الذهاب الى مكاتب الاقتراع والإدلاء بأصواتهم. وهي نسبة محيّرة أيضا، لأنّها تُوجد مخاوف حقيقيّة من انتكاس التجربة الناشئة، لأنّ العزوف وعدم الاكتراث بممارسة الحق والواجب الانتخابي يفتحُ الأبواب أمام المغامرين والأجندات المشبوهة لامعان معاول الهدم في ما تحقّق من خطوات في المسار الديمقراطي على مستوى الدستور والنصوص التشريعية وبداية تركيز مؤسّسات الحكم والتداول السلمي على السلطة. هناك حالة من القصور في أداء النخبة والأحزاب.وهذا ثابت. ولا يحتاج إلى الكثير من الأدلّة. وهذا الوضع يحتاج إلى تحاليل وقراءات معمّقة تتجاوز الابتهاج والفرح بالكسب الضيّق والمحدود الذي ناله البعض الى فهم جوهر ظاهرة العزوف التي باتت بارزة ومفزعة ناهيك أنّ أسابيع قليلة تفصلنا عن مواعيد انتخابيّة هامة ومصيريّة. هذه التحاليل والقراءات يجبُ أن تعمل على الإجابة عن سؤال جوهري هو: هل العزوف الشعبي موقف من الديمقراطية أم موقف من النخبة السياسية والأحزاب؟ الظاهر، بحس تجربة ما بعد الثورة، أنّ الناخب التونسي رغم حداثة الممارسة الديمقراطية انجذب بقوّة الى المنافسة الانتخابية. وحدث هذا خصوصا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وانتخابات سنة 2014. حيث لامسنا حسا مواطنيا عاليا جسده الإقبال الجيّد ونسبة المشاركة المحترمة، قبل أن يخبو ذلك الحماس وتتراجع تلك النسب بداية من الانتخابات التشريعية الجزئية في ألمانيا والانتخابات البلدية في ماي 2018 وما تبعها من انتخابات بلدية جزئية كان آخرها انتخابات باردو. الأقرب الى المنطق والواقع أنّ الناخب التونسي يعزفُ عن هذه النخبة الراهنة. ويعبّر من خلال سلوك المقاطعة عن حالة من القلق وعدم الرضى. فهو تعبير فيه وعي وموقف من ممارسة حزبيّة وسياسيّة سيّئة وأداء مهزوز أكثر منه موقف رافض للديمقراطية. وهذا ما يطرح على الأحزاب والمشتغلين بالسياسة ضرورة الإسراع بتعديل الأوتار والتفاعل الإيجابي مع حالة القلق التي يعيشها المواطن التونسي. فالخيار الديمقراطي سيظل قائما لأنّه لا بديل عنه. والتونسيون لن يتخلوا عن مطلب ناضلوا من أجله عقودا طويلة وقدموا في سبيله تضحيات جسام.