فيما بدأ التسخين لجولة جديدة من الحوار الوطني القديم المتجدد حول ملف الإصلاح التربوي يندفع السّؤال: لماذا فشلت كلّ المقاربات الإصلاحيّة السّابقة أو على الأقل لم تنجح إلاّ نسبيّا حفاظا على قدر ولو ضئيل من التفاؤل. تونس الشروق: من الناحية الشكلية حملت سائر المقاربات الإصلاحية السابقة بذور فشلها عندما انساقت إلى تجزئة التعليم تأثّرا بهيكلة حكومية متخلفة تتعاطى مع منظومة واحدة على أنها قطاعات مستقلّة بذاتها تفصل بينها جدران عالية. عجلة خامسة بل إنه من هذه الزّاوية لوحدها يمكن تشخيص أسباب معضلتين مترابطين هما تدهور الناتج المعرفي للمدرسة وضعف تنافسية الاقتصاد وهي بالأساس تهميش «التكوين المهني» وعزله عن هيلكة التعليم الثانوي وهي مفارقة صنعتها الخيارات المغلوطة للدولة وانعكست على ذهنية المجتمع الذي لا يزال يتعاطى مع التكوين المهني على أنه ملاذ للفاشلين أو عجلة خامسة في أقصى الحالات. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن ألمانيا لم تكن لتتموقع كأقوى اقتصاد في أوروبا لولا قوة جهاز التكوين المهني الذي يستقطب طوعا 70 ٪ من تلاميذها من خلال التوجيه المدرسي في ختام المرحلة الأساسية. وفي المقابل تنتج المدرسة التونسية إما جحافل من المنقطعين مبكرا عن التعليم الذين لا يمتلكون أي «سلاح» في مواجهة استحقاقات الحياة أو طوابير من أصحاب الشهائد العليا الذين لا يملكون أي فرصة للاندماج في سوق الشغل عدا الملاذ الاجتماعي للدولة ممثلا في انتدابات القطاع العام التي تحولت منذ 2011 إلى استنزاف خطير للمجموعة الوطنية تختزله الأزمة المالية الحادة للقطاع العام. وبمعنى أوضح فإن التهميش الحاصل للتكوين المهني ينتج هرم يد عاملة مقلوب يتّسم بتخمة في الشهائد التنظيرية التي لا يحتاجها الاقتصاد مقابل ندرة في الاختصاصات التقنية تعد من أهم أسباب ضعف الناتج القومي وتدهور جودة الخدمات المسداة للمستهلك في سائر القطاعات الخدمية مثل البناء والكهرباء وصيانة السيارات والتجهيزات المنزلية. وبالنتيجة فإن أي إصلاح تربوي لن يكون صادقا وناجحا ما لم يدفع نحو إدماج حقيقي للتكوين المهني صلب منظومة التعليم بكل ما يحتاجه ذلك من هيكلة جديدة للمدارس وتوجيه مدرسي يفتح مسارات متعددة أمام التلاميذ. تمويل التّعليم وهذا التحدّي يثير في المقابل أكبر قضية تواجهها المدرسة وغيّبتها سائر المقاربات الاصلاحية السابقة وهي إعادة النظر في «تمويل التعليم» لمواجهة استحقاقات الحاضر التي تختلف كثيرا عن ظرفية تأسيس المدرسة التونسية بعيد الاستقلال. ويبدو جليا أن غرق كل الأطراف المعنية بملف التعليم في المفهوم الشّعبوي لمجانية التعليم كان من أهم أسباب الاستنزاف المالي لكل من الدولة والمواطن وهو استنزاف صنع واقعا يتعارض تماما مع مبدأ «المجانيّة» لا فقط من خلال استشراء الدروس الخصوصية بشكل جعل التعليم النظامي وظيفة تكميلية وإنما بالأساس من خلال عجز الشبكة التقليدية للمدرسة عن الاضطلاع بوظائف تكتسي صيغة محورية في التنشئة المتوازنة للأجيال الجديدة وتحقيق «لذّة المعرفة» وفي مقدمتها توفير الفضاءات والتجهيزات الضّرورية لممارسة الرياضة والفنون. استنزاف وفي خضم هذا العجز تستنزف العائلات ماليا وبدنيا وذهنيا لتمكين أبنائهم من ممارسة الرياضة أو الموسيقى أو المسرح بأشكال تتلاءم مع روح العصر فماذا بقي من مجانية التعليم؟ وأي تأثير لهذا الاستنزاف على قابلية التعليم للعملية التربوية وهو الذي يضطر في كثير من الحالات إلى التنازل عن قسط من النوم لمتابعة الدروس الخصوصية أو تعاطي الرياضة والفنون. وبالنتيجة فإننا أمام مفهوم كئيب لمجانية التعليم يكرّس فوارق واسعة بين القانون والواقع المعيش كما وفّر بيئة خصبة للفساد وسلعنة التعليم بشكل قلص من نجاعة الوظيفة التعليمية والتربوية للمدرسة فيما كان من المفروض أن تعاد صياغة مفهوم المجانية باتجاه تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية من خلال تكفل الدولة بكل مستلزمات الدراسة لأبناء الفقراء بما في ذلك النقل مقابل الترفيع نسبيا في تعريفات التسجيل بالمدارس والمعاهد لبقية فئات المجتمع وذلك على قدر الدخل. بمعنى أوضح هل هناك عائلة تونسية من الطبقة المتوسطة أو الثرية سترفض دفع بضعة عشرات أو حتى مئات الدنانير في مفتتح السنة الدراسية إذا علمت أن هذا المبلغ سيحوّل المدارس إلى مؤسسات قادرة على تعبئة الأموال الضّرورية لإقامة فضاءات للرياضة والفنون كما سيتيح للدولة التفرغ لتحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية للمربين بما يمكن من تجفيف منابع الدروس الخصوصية التي لا يقف تأثيرها عند نخر العملية التربوية بل يتعداه إلى مسألة أخطر هي التمييز الاجتماعي بسائر تداعياته الثقيلة على تجانس ووحدة المجتمع. وبالتوازي مع هذه الأزمات الهيكلية الثقيلة فإنّ أي حوار حول الاصلاح التربوي ينبغي أن يشكل إطارا لتوافق وطني يحسم عدة ملفات عالقة تربك نجاعة العملية التربوية وفي مقدمتها «لغة التعليم» وعدم تجانس الضوارب بشكل يؤثر حتى على دور المدرسة في تكريس واعز المواطنة إلى جانب معضلة «الانتداب من الشارع» التي أثرت بشكل ملحوظ على الناتج المعرفي والتربوي للأجيال الجديدة من المدرسين. وبالنتيجة فإن الحوار حول الإصلاح التربوي ليس حوارا حول قطاع مستقل بذاته وإنما خوض في مصير بلد بأسره فالمدرسة هي صمام وحدة المجتمع وأساس الاقتصاد ومن ثمة فإن تركها متخلفة عن الرّكب بهذا الشكل هو مقامرة باستقلالية تونس وكرامة شعبها واغتصاب لحق الأجيال النّاشئة في مستقبل أفضل.