لم يكن الباجي نسخة طبق الأصل ولا مشوهة من الزعيم الراحل بورقيبة. بل لا نجد له قدوة حقيقية ولا مثلا في السياسة... قايد السبسي كان ذا شخصية متفردة مما ساعده على تحقيق مآثر عديدة يصعب على غيره إنجاز النزر منها. تونس الشروق: اليوم يلتقي عدد كبير من زعماء العالم ومشاهيره وخاصته وعامته لتشييع جثمان الباجي، اليوم تزاحم نساء تونس رجالها على توديعه كما لو كان نجما يغادر في أوج شبابه. بالأمس بكته معارضته الشرسة سامية عبو كما بكاه ابنه حافظ، وحزن الرئيس السابق منصف المرزوقي على وفاته كما حزن شريكه في التوافق راشد الغنوشي ورفيق دربه محمد الناصر. وتألم أنصاره لفراقه كما تألم معارضوه وحتى من كانوا يناصبونه العداء السياسي. غدا تتواصل الحياة في تونس وفق نسقها العادي دون انقلاب ولا دماء ولا تصارع على الحكم كأننا لم نودع رئيس الجمهورية وحامي الديمقراطية وراعي الدستور والقائد الأعلى للقوات المسلحة والأب الاعتباري لشعب لم يتخلص من عرف الرئيس الزعيم والقائد. في هذا كله تبرز شخصية غير عادية جعلت منافسها الأول منصف المرزوقي يطمح إلى رفع نعشها على كتفيه. ولكن فيم يختلف الراحل عن غيره من السياسيين الأحياء والأموات؟ من الحكم إلى المعارضة إن كان الباجي وطنيا فقد سبقته إلى الوطنية جحافل من التونسيين، وإن كان ديمقراطيا فقد تفوق عليه العديد ممن حاربوا وتضرروا من دفاعهم عن الديمقراطية. ولكن ما يتفرد به الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي أنه دافع عن الديمقراطية من داخل حزبه (الحزب الاشتراكي الدستوري). واختلف من أجلها مع زعيم الحزب وولي نعمته الحبيب بورقيبة أيام كان الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر. لبورقيبة فضل كبير على الباجي فهو الذي قربه إليه واحتضنه منذ شبابه وهو الذي شجعه على ممارسة العمل الإداري قبل أن يزج به في معترك السياسة وهو الذي كان يتحكم في مصيره السياسي بما أنه كان صاحب القرار لكن الباجي شذ عن القاعدة عندما استقال من الحزب الحاكم والتحق بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري. قد يرى البعض قراره نوعا من الجنون ولكن يمكن وضعه في خانة التضحية بالمنافع الشخصية في سبيل المبادئ فيكون دفاعه عن الديمقراطية والانفتاح السياسي في حزب ونظام لا يعترفان بهما شبيها بكلمة الحق لدى سلطان جائر أو بعبارة أدق لدى رئيس لا يعترف بالديمقراطية بغض النظر عن وطنيته. براغماتية فريدة لم يكن بورقيبة مثلا للباجي ولا أبا روحيا، فكانت العلاقة بين الرجلين عبارة عن علاقة شخصية سياسية تبحث عن إفادة البلاد بشخصية مستعدة للعمل والتحدي والاستجابة دون خضوع أو طأطأة للرأس أو لعق للأحذية، وقد روى بعض من عاصروهما حكايات كثيرة حول نقاشات كانت ندّا للند بين الشخصيتين كتلك التي حدثت في مجلس الأمة (سابقا) حول مساعدة مالية قدمها بورقيبة للباجي ليشيد منزله أو تلك التي دارت حول العلاقة بين «السواحلية» و»البلدية». يشاع أن بورقيبة كان لا يتردد في ضرب بعض من يتعامل معهم بعصاه. لكن لا أحد ذكر أنه رفعها في وجه الباجي يوما طيلة 30 سنة تقريبا من التعامل بين الرجلين. في هذا تبرز شخصية الباجي المركبة التي توالي الزعيم الأوحد وتتعامل معه وتطيعه وتعارضه وتغضبه وتتشبه به في نوع من البراغماتية يصعب العثور على مثيل له في أي شخصية سياسية أخرى. بالطريقة ذاتها (من حيث المعارضة والمخاصمة والعداء والتحابب) كان الباجي يتعامل مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ومن خرجوا عن طوعه من الندائيين ومن عارضوا سياسته في الداخل والخارج... الرئيس العربي الوحيد من النادر أن تتولى شخصية سياسية جل وزارات السيادة كما فعل الباجي قبل مغادرته الحزب الحاكم وبعدها. ومن النادر أن تجمع بين جل المناصب السياسية الممكنة مثل رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحزب الحاكم فضلا على المناصب الدبلوماسية والإدارية كما فعل الباجي. وللتذكير كان الراحل وراء استصدار أول قرار أممي يدين إسرائيل وأول قرار تتخلى فيه الولاياتالمتحدة عن استخدام حق الفيتو لصالح حليفتها الاستراتيجية.. كان ذلك بمناسبة قصف اسرائيل لحمام الشط سنة 1985 إبان إمساك الباجي بوزارة الخارجية. الأهم أنه كان يتصرف تصرف الزعماء وهو بعيد عن السياسة وتصرف عامة الشعب وهو على رأس الدولة… حتى لا ننسى، قايد السبسي قد يكون رئيس الدولة العربي الوحيد الذي خسر قضية ضد مواطن عادي (عماد دغيج) دون أن يعاقب القاضي أو يوبخ القضاء أو يقيل وزير العدل أو يخسف الأرض بخصمه أو يأمر مخابرات الدولة بمحو حيه السكني. من يبكي الباجي اليوم لن يكون كاذبا، ومن يترحم عليه لن يكون منافقا، ومن يذكر مآثره لن يكون مطبلا، شريطة ألا نأخذها مأخذ الشهادة التاريخية. فالمرحوم كان بشرا وكل إنسان يخطئ ويصيب لكن علينا أن نكتفي ب»ذكر موتانا بخير» حتى تسنح الفرصة للحكم له وعليه بموضوعية. المناقش العنيد نقل لنا معاصرو بورقيبة أنه كان يأمر وينهى فلا يجد غير السمع الأخرس والطاعة العمياء لكننا نورد بتحفظ شديد حادثتين تشذان عن القاعدة وتتعلقان بالباجي قايد السبسي ومأتى التحفظ أن الحادثتين منقولتان عن الباجي بنفسه دون أن يتطرق إليهما مؤرخ بحياد وموضوعية. أما الحادثة الأولى فقد شهدها مجلس النواب (مجلس الأمة سابقا) ويروى فيها أن بورقيبة أسهب في التعرض إلى تدخله شخصيا لإعانة فلان وفلتان حتى ذكر في من ذكر وزيره الباجي قايد السبسي بدعوى أنه ساعده ماليا على تشييد منزله فما كان من الباجي الذي كان حاضرا إلا أن عارضه بالقول إنه أرجع المبلغ المالي وإنه سلمه لرئاسة الجمهورية واستظهر بوصل التسليم فعلق بورقيبة بالقول ومع ذلك فقد ساعدتك عندما احتجت إليّ. وأما الحادثة الثانية فقد شهدها قصر قرطاج حيث امتعض بورقيبة من قدوم علي البلهوان قبل أن يبرر امتعاضه للباجي بانتماء البلهوان الى »البلدية» الذين كان بورقيبة يمقتهم. وقد يكون تفاجأ بعدم وقوف الباجي إلى صفه وعدم تبنيه آراءه فانتهى النقاش الحاد بما يشبه القفلة التي أكد فيها بورقيبة أنه لا يكره «البلدية» وأن استياءه الوحيد من فكرة العداء التي يحاولون ترسيخها تجاه الساحل والحال أن السواحلية لا يناصبونهم العداء. حتى نضع الأمور في نصابها علينا ألا نغفل عن معطى مهم فالباجي لم يكن أقوى من بورقيبة ولكنه كان مدعوما جدا من زوجته (البلدية) وسيلة بن عمار ومن ابنه الحبيب بورقيبة الابن. وعد فأوفى؟ من النادر أن يفي المنتخب بما وعد به الناخب لكن الباجي حقق نسبة عالية من وعوده الانتخابية وقد كاد يحققها كلها لولا الموازنات الاقليمية التي أجلت إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا والحسابات الانتخابية التي أجلت تحويل مبادرته حول المساواة إلى قانون ومشاكل حزبه الداخلية التي حالت دون التفرغ كليا لحل مشاكل البلاد.