نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. تمتدّ أوذنة في شكل مربّع على عدّة كيلومترات بمعالم لا مثيل لها فيما رأى « صاحبنا» من البلاد التونسيّة. وأبرزها المسرح الكبير الشبيه بمسرح سرقوصة (Syracuse) في موقعه الطبيعي. وقد غمر الردم ميدانه البيضويّ الشكل لما تساقط من الأعمدة والمدارج. وقد شمل الدمار المسرح الصغير والحنايا في حين سلم الجسر الروماني والمواجل حتّى أنّها اتّخذت ملاجئ للبقر لاتّساع كلّ منها بحوالي 25 م على 12م. وتدلّ مجموعاتها – وهي بنحو عشرة في كلّ مجموعة – على أنّ ضخامتها في ضخامة أوذنة وعدد سكّانها. وهذا ما أبهر « رحّالتنا» بتفوّق على قرطاج ( ص 185 – 187). ها هو في بنزرت يوم 10 جوان 1884 بعد اجتياز مجردة على قنطرة متينة واختراق سهل أجرد لا شيء يقطع رتابته غير بعض الخيام والقطعان وملاحظة أوتيك (Utique) الفينيقيّة السابقة لقرطاج والمغمورة آثارها بالرواسب والأعشاب ممّا يعسّر المهمّة على الأثريّين وييسّر التخيّل على السائحين ( ص 189 – 191). لاحت له المدينة – هو ومرافقيه – من وراء الهضاب وهي مستلقية للشمس كمحارة منفتحة، وقد اشرأبّت أسوارها البيضاء في طرف اللسان الرملي الفاصل بين البحيرة والبحر، وأحاطت بأحيائها عدا حي الأندلس حيث مازال يسكن العرب المطرودون من إسبانيا بعد سقوط مملكة غرناطة ( ص 191 – 192). ولكنّه عندما دخلها بدت له بمظهر مقبرة لخلوّ الأنهج وإقفار الديار بعد الحيويّة النسبيّة التي رافقت الاحتلال والتي لم تدم طويلا إذ بمجرّد أن غادرها فيلق الحملة العسكريّة هجرها الصنّاع والتّجّار، فعدد سكّانها اليوم لا يتجاوز 5.000 نسمة بما فيهم بعض الأوروبيّين و500 أو 600 يهوديّ. ورغم ذلك فهي جميلة وجذّابة بطابعها الشبيه بالبندقيّة (Venise) نظرا للقنال الذي يخترقها ولهدوئها وسكونها في مياهه الشفّافة. وفي الليل عندما ينحني البدر على أنهجها المظلمة وأبوابها الداكنة تتّخذ صورة خياليّة بتأثير ديكور الأوبرا. وتكتمل الصورة الساحرة بالقوارب البيضاء الأشرعة وبالأسوار والأبراج المرتسمة أشكالها على السماء المضاءة وبقناديل الدكاكين المنعكسة أضواؤها على القنال وبالظلال الصامتة المنزلقة طوال المنازل. وفي عتمة الليل، عندما تنمحي ملامح الأشياء، تكشف بنزرت عن صورة أخرى قديمة عندما كان بحّارتها ينطلقون لقرصنة المسيحيين ويعودون منتصرين إلى أسوارهم بغنائم من العبيد والذهب والأشياء الثمينة. أمّا أحوازها فهي خصيبة جدّا ومنتجة لكلّ شيء بوفرة من الثمار والخضر والحبوب والزيت والعنب. والفضل يعود إلى تفاني المزارعين، وأكثرهم 18000 قبائليّ لاجئ من الجزائر عقب احتلالها كما هو معروف دون إشارة من «صاحبنا». ولم ينس ملّون البوح بمشروع ربط البحيرة بالبحر وإنشاء ميناء عسكريّ وتجاريّ في موقع استراتيجيّ يتحكّم في البحر المتوسّط بما أنّ العمق مناسب واللسان الرمليّ الفاصل بينهما لا يتعدّى عرضه 200 م. وتلك البحيرة المتخفّية خلف الهضاب المشجّرة هي، مع البحر، مصدر ثروة بنزرت السمكيّة ( ص 192 – 195). بعد جولة سريعة في ناحية من الشمال الغربي زار فيها باجة وسوق الأربعاء ( جندوبة فيما بعد) ترك محطّة القطار وركب هو وصحبه الدواب نحو عين دراهم، وها هو يكتب منها يوم 15 جوان 1884 معجبا بظلال غاباتها وخرير عيونها بقدر إعجاب كلّ من جال فيها. وقبل الوصول إليها شهد حول محطّة سوق الأربعاء نشأة مركز حضريّ لن يلبث أن يتطوّر إلى مدينة وسوق جهويّة بفضل جهود الإدارة الفرنسيّة والكتيبة العسكريّة متمثّلة في بناء ثكنة ومخازن وزراعة الكلاتوس (Eucalyptus) وجلب المياه من عين بلاّريجيا ( ص 197 – 198). وهو في الطريق الوعرة إلى عين دراهم وصف تطوّر المشاهد الطبيعيّة من تضاريس ونباتات. ترك خلفه السهل المحصود للرعي واتّخذ من أغصان أشجار الزّان والصنوبر والفلّين قبّة «قوطيّة» ومن الأعشاب النديّة بساطا مزركشا طوال الطريق. هكذا تقريبا وبصورة إجماليّة بدا وصفه الشاعريّ لمكان رائع يغمر ما فيه بالنور اللطيف والهواء النديّ وينفتح على البحر في الأفق، بين السفوح، إذ تتلوّن مياهه بألوان السماء حسب الطقس. وهو طقس طبعته مجاورة بحر يرسل أبخرته لجبل ينزلها مطرا تجمعه العيون وتجري به الجداول. كانت عين دراهم مجرّد اسم لذلك المكان، فهاهي بعد ثلاث سنوات – منذ الاحتلال – تصبح قرية بكنيسة ومدرسة ومبان حمراء السطوح على أرضية خضراء، مشرفة من أعاليها على طبرقة وعلى القالة الجزائريّة. وغير بعيد عنها بأربعة كيلومترات أو خمسة قبّة الوليّ الصالح سيدي عبد الله الذي يحتفل الأهالي بزيارته ( يقصد الزردة) السنويّة إذ كان آخر مركز مقاومة. ومع ذلك فبعض الجنود يشاركون في الاحتفال، وقد رافقونا فكنّا بعدد أربعين ضيوفا في خيمة الشيخ الفسيحة على موعد مع الفروسيّة ( ص 198 – 202). في حلقة المتفرّجين حول الفرسان لا فرق بين غنيّ وفقير، ولا فرق في الملامح. وجوه تميل إلى السمرة وشفاه غليظة وأذقان قويّة، كلّ ذلك يذكّر بالأصل البربريّ الممتزج بالدخيل العربيّ وحتّى بالمصريّ القديم مذ كان الكوشيّون (Les Kushites) منتشرين في شمال إفريقيا من غرب النيل إلى النيجر وجزر الكناري (Iles Canaries) (ص 203). افتتن ملّون بالاستعراض الشعبيّ لأنّه ليس من النوع المألوف من ركض وطلقات بنادق وغبار ودخان، إنّما هو براعة حركات بهلوانيّة بطريقة السرك، متدرّجة من « رقص» الفرس على إيقاع الطبل والمزمار إلى انقلاب الفارس على السرج إلى التقاط منديل من الأرض دون توقّف. .. إلخ (ص 204). ثمّ وصف بدقّة التضاريس والغطاء النباتي على اختلافه من جهة إلى أخرى وهو في الطريق إلى القالة، ونوّه بالخصوص بالتغيير الإيجابي الذي أحدثه الاستعمار في الجزائر والذي سيكون مثله في تونس في مختلف المجالات. سجّل بوادر ذلك التغيير، وتخيّل الآفاق الواعدة ممجّدا مختلف الأطراف الفاعلة ومنتقدا بعض التفاصيل وواعدا فرنسا بالربح الوفير تعويضا لما أنفقته في سبيل تمدين البلدين وإلحاقهما بترابها نهائيّا معوّلة بالخصوص على التعليم ضمانة للإدماج، على حدّ تخطيطه وتعبيره ( ص 205 – 212) ! التعليق: جمع بول ملّون في رحلته بين الجغرافيا الطبيعيّة والجغرافيا البشريّة والاقتصاديّة. وصف بدقّة الواقع واستحضر التاريخ بمنهج المقارنة وبهاجس العلاقة بين الأهالي والسلطة الفرنسيّة. ظلّ منذ بداية الرحلة، وخاصّة في نهايتها، ممجّدا للاستعمار، منوّها بمظاهر التمدين. ومافتئ يقترح عند كلّ فرصة وفي أكثر من مجال أفكارا داعمة لسياسة الإدماج، خادمة لمصلحة فرنسا. على أنّه كثيرا ما عبّر عن إعجابه بالمواقع والمعالم وسخر من بعض المظاهر والعوائد. وكان أسلوبه شاعريّا في الغالب لفرط تأثّره بروائع المناظر. (انتهى)