كان أمر المسلمين بينهم في عهد الرسول والخلفاء مثلما كان بين شيوخ القبائل في الجاهليّة شورى بينهم . وكان أمراء الدول العربيّة يستشيرون من يختارون من أهل العقل والعدل والعلم جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة حسب مقتضيات الأزمنة والأمكنة. ولم يكن ثمّة نوّاب ينتخبهم الشعب لتمثيله لديهم حتّى جاء العصر الحديث بديمقراطيّة أوروبيّة موروثة عن مجلس الشيوخ الروماني المنسوج بتصرّف على المنوال اليوناني. وقد عشنا عهدين محكومين بحزب واحد ونوّاب من بني «وي وي» أو «نعم نعم» يباركون وينوّهون ويقضون شؤونهم. ثمّ جاءت الثورة بخليط من الألوان وعدد من الامتيازات مع حرّية السياحة البرلمانيّة وكثرة الغيابات وعدم الاكتراث بالتعطيلات، في جوّ عنيف بلا استحياء. وها قد انتخبنا حجيرات مختلفة تنتظر من يشكّل منها لوحة فسيفساء جميلة ومعبّرة تزدان بها مجموعة باردو، وفق رؤية وبرنامج بما يقتضيه العمل من توافق وائتلاف في ظلّ الشعور بالمسؤوليّة والحرص على الأمانة. وليس بدافع الأنانيّة الحزبيّة والمصلحة الشخصيّة. ولكنّ المال الفاسد والدمغجة الطوباويّة والوعود الباطلة صارت مطايا المتكالبين على الكراسي والمناصب والمكاسب، غير المبالين بالمعذّبين الصابرين وبما خسرته البلاد طيلة تسع سنين ، رأينا فيها عجائب التاريخ وكأنّه يعيد نفسه من سيّئ إلى أسوأ و» العجوز تزغرد» ! كنت متفائلا فصرت متشائلا. وانتهيت متشائما بل نادما على ما فعلنا بأنفسنا وناقما على الديمقراطيّة المستوردة ومتّهما النظام الانتخابي وتبعاته من تقاسم السلطة حتّى أصبحت لا أستطيع أن أحدّد من أتوجّه إليه صائحا في وجهه «ارحل» أو»ديقاج» في باردو أم في القصبة أم في قرطاج. ألا تكفينا انتخابات رئاسيّة نختار فيها من المترشّحين من يقنعنا ببرنامجه ويلتزم بتنفيذه ويكون حرّا ومسؤولا في تعيين رئيس لحكومة يشكّلها من الكفاءات. وليس حسب الولاءات. فإذا استعظم قرارا عرضه على الاستفتاء؟ هكذا نربح الكثير من الوقت والمال فننصرف إلى العمل للإنقاذ والإصلاح. إذ بلغ السيل الزّبى ونحن منهوكون نخبط خبط عشواء. أيّة فائدة في ديمقراطيّة تنتعش بها الأحزاب. وتمتلئ منها الجيوب وقد حقّقنا أرقاما قياسيّة في عدد المترشّحين ارتفاعا وعدد العازفين انخفاضا حتّى غلب اليأس والإحباط واللاّمبالاة الشباب وسائر الفئات؟ اليوم انقلب السحر على الساحر . والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. والعالم ينظر إلينا ما بين غيور ساخر من ثورتنا، طامع في ثروتنا، وبين صديق متأسّف على فرصة ضيّعناها، تارة بالخصام وطورا باللعب. أنا أكثر من متشائم. أنا حزين منذ 11 سبتمبر لما أصاب الشرق العربي من خدعة « الفوضى الخلاّقة « ومتأسّف لانحطاط بلدي وهزيمة جيلي. أقول هذا بمرارة. ولا أكذب على نفسي مهما نصحني الطبيب . وهو أيضا مريض مثلي. إذ صارت تونس لا تؤنس. هل أستطيع إنقاذ نفسي. فانعزل زاهدا في الدنيا، مقاطعا النشرات والتصريحات والحوارات ، واستغفر الله من خطيئة الاختيار يوم لذنا بشيخ فباعنا مكرها لشيخ، وفتح للبلاء علينا كلّ باب، فنحن كمن هرب من القطرة إلى الميزاب ؟ وهل أستطيع إراحة ضميري فأنسى يوما أسقطنا فيه نظاما وحلمنا بغد أفضل يضمن الشغل والحرّية والكرامة الوطنيّة ونحن مخترقون «فايسبوكيّا» يتلاعب بنا برنار ليفي و»إخوانه» نحو مشروع صهيونيّ، تماما كما يوجّهنا اليوم «الذين يخافون ربّي» نحو مشروع إخوانيّ على درب خلافة سادسة أو ولاية تركيّة، أمام عدم التصريح ببرنامج ؟ تلك ديمقراطيّة الحمقى تجرفنا بالصندوق إلى دكتاتوريّة «آيات الله العظمى». وهذه خمس سنوات أخرى من الفشل – وربّما أكثر – فيها تغلق الملفّات الخطيرة وتؤجّل القضايا الأساسيّة ويشغل الجمهور الكريم بالمناقشات الثانويّة تحت راية « موتوا بغيظكم» . وأختم ناصحا : دعوهم مع فراخهم يحكموا وحدهم حتّى لا يمسحوا أيديهم من الفساد والإرهاب في أحد. نسألك اللّهمّ حسن العاقبة. وتلك دعوة المضطرّ المخيّر بين تقبيل الأفعى والسقوط في بئر.