من الخطإ الاقتصار على معاينة اللحظة التونسية أو المغاربية أو العربية مع ما يوجد بين هذه اللحظات من مشترك دون تأصيل هذه اللحظات في العقدين الأخيرين على الأقل. فالبعد التاريخي كما يذهب إلى ذلك ماكس فيبر مسرب رئيس يأخذنا إلى نصيب من الفهم ومن ثمة في تفسير ما يجري ويعتمل من ظواهر في الحاضر. ولكن السؤال كما سبق وأن طرحنا في الجزء الأول من هذا المقال الأسبوع السابق هو: لماذا تعثرات مسارات التحديث في مجتمعاتنا رغم البدايات المشجعة التي عرفتها حقول التعليم والصحة والعقلنة؟ وكيف وجدنا حصاد مشروع الدولة الوطنية التونسية الحديثة بعد عقود من البناء والريادة العربية في التحديث؟ كما أبرزنا أن مشروع الإجابة يمكن أن يتوقف في جزء من محاولة الفهم والتفسير عند سببين اثنين كبيرين أولهما حرب الخليج وما انجر عن ذلك من حرب طويلة قاسية على العراق والخليج والعالم العربي مشرقا ومغربا. والسبب الثاني استثمار حماسة المشاعر الدينية والغليان الهوياتي من طرف الحركات الدينية ومضاعفة التوظيف مع تراكم تداعيات تلك الحرب سواء على نظرة الآخر لنا أو تتابع تدهور الاقتصاديات العربية. لقد دفع كل العالم العربي والإسلامي تكلفة حرب الخليج ماليا واقتصاديا وسياسيا وتنمويا. الجميع دفع دون استثناء لأن الضرر مس الجميع وتداعيات الغزو من غزو الكويت إلى غزو العراق شملت كل بلداننا ونعتقد أن كل قراءة للوضع العربي اليوم خارج التأريخ للأزمة من تاريخ حرب الخليج الأولى هي قراءة خارج الترابط التاريخي. ويتمثل دور حرب الخليج في استنزاف العالم العربي ماديا وتراجع إمكانياته المادية واضطرار إلى تلبية شروط هي من النتاج السلبي لحرب الخليج. ومع بداية الألفية الجديدة وتحديدا بعد أن بدأت الأزمات الاقتصادية تظهر علاماتها ومؤشراتها انتهز الغرب الفرصة لفرض مشاريع الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي تطبيقا لأفكار فرانسيس فوكوياما صاحب فلسفة النهايات: نهاية التاريخ والإنسان الأخير وهو تقريبا أول من دعا إلى ترويج الديمقراطية بالقوة ومنطلقه الفكري الأساسي أن نهاية الحرب الباردة هي نهاية للأنظمة الشمولية غير الليبرالية والديمقراطية كافة. ويمكن وضع ما سمي بالثورات في بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة في هذا السياق وهو واقع لم تتحدد ملامحه بعد ويتميز باحتقان متواصل لم تنجح الثورات في معالجته الشيء الذي جعل قراءة النتائج والمسارات محفوفة بالشك والتشكيك. السبب الثاني لمسارات التحديث المتوترة المتعثرة التي تعرفها مجتمعاتنا اليوم هو تظافر الأزمات الاقتصادية وارتباك الأنظمة العربية السياسية مع العودة القوية لحركات الإسلام السياسي التي استثمرت التصدعات النفسية الثقافية التي عرفتها العلاقة بين العرب المسلمين والغرب بعد أحداث تاريخ 11 سبتمبر 2001 والدخول في الحرب ضد الإرهاب بكل الالتباسات التي تعنيها هذه الحرب. فالتوقيت الذي عاد فيه الإسلام السياسي للنشاط وللدعوة وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي للانتداب الشباب العربي والمسلم إضافة إلى تحول وجهة النقاشات والنضال من مجال التحديث والانفتاح إلى مجال الدفاع عن الهوية والانكفاء داخل الهوية الدينية. كما أن الأسباب مجتمعة تشابكت على نحو يتناسل كما الفطريات مما عمق التأزم. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن التحديث لا مناص منه اليوم وأنه ليس أمر موكول للاختيار بقدر ما أصبح ضرورة للتعايش مع العصر ومع العالم فإن المطلوب هو التفكير في كيفية معالجة الموانع التي تعرقل مسار التحديث والنضال بشكل واع ومدروس لتذليل التوتر وذلك بالاشتغال اقتصاديا وثقافيا في نفس الوقت. هناك عطبان: اقتصادي وثقافي ولا مجال لمعالجة توترات المنجز التحديثي والمضي قدما في مسار الحداثة إلا بحل المشاكل الكبرى التي اختصرناها في تداعيات حرب الخليج الاقتصادية وتوظيف جراحها الثقافية من طرف الإسلام السياسي. لنتأمل مثالنا التونسي جيدا والحراك الذي نعيشه وسنجد هذين السببين حاضرين ولو من بعيد.