رجل الدقائق الأخيرة والمراحل الحاسمة، شديد الهدوء حتّى في أكثر اللحظات تأزّما ، يحلو لبعض المقربين منه مناداته ب «الحكيم». تونس (الشروق) يحترمه خصومه ويقرّون بدوره الجوهري في مفاصل جوهرية في تاريخ الدولة التونسية . هو رجل تتداخل ابعاده الإنسانية مع خصاله كرجل سياسة، وتتضح هذه الصورة في وفائه لصديقه ورفيق دربه الراحل الباجي قائد السبسي، الذي عوّل عليه كلّما اقتضت الحاجة لتدخله، وهو ما جعله يلعب دور "الوسيط" في حل الازمات، و «المفاوض « الذي حاول جمع شتات الفرقاء . من مؤسسي الدولة الوطنية اخر رجال «الدولة البورقيبية» ومن أكثرهم تقلدا للمناصب السامية في الدولة بالرغم من أنه لم يخض حروبا للفوز بأي منها. هو من الجيل الأول للولاّة الحاملين للاستاذية، ومن المؤسسين للدولة الوطنية، خدم الدولة من كل المواقع تقريبا، ومرّ عبر كل المراحل، من الوالي الى الوزير ... وصولا الى منصب رئيس الجمهورية، الذي يغادره غدا، وربّما يكون آخر المناصب التي يتقلدها، خاصة وانه أعرب عن رغبته في الابتعاد عن الأضواء . محمد الناصر، دعاه التاريخ للقيام بدور وطني، فلبّى الدعوة ولم يتراجع حتى بعد ان أصبح في مرمى معارضيه في مرات كثيرة، أشهرها أثناء مناقشة قانون المصالحة و التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة... حينها تم استهدافه بكلمات نابية وتم تهديده، حتى ان احد النواب قال إنه انتحاري وسيفجّر البرلمان، لكن الناصر بقي ثابتا على موقفه ولم ينحرف الى ما يمكن ان يهدد مسار الانتقال الديمقراطي . مسيرته محمد الناصر ليس مثاليّا في سلوكه السياسي، وليس منزها عن النقد، لكن يمكن اعتباره من اخر الرجال القادرين على التجميع مهما كان عمق الخلافات، ففترة ترؤسه للبرلمان كانت من اكثر الفترات التي شهدت هزات سياسية و سلسلة توترات لا متناهية... ووسط كل هذا الرّكام من السقوط السياسي والأخلاقي، حاول الناصر الحفاظ على ما امكن وعلى الحد الأدنى لاستمرارية الدولة. يغادر محمد الناصر غدا قصر قرطاج، بعد أن اضطلع بمهمة القائم بمهام رئيس الجمهورية، بعد تاريخ سياسي لا يمكن اختصاره في بعض الاسطر، لكن يمكن تسليط الضوء على بعض مراحله، فالناصر الذي وُلد في 21 مارس 1934، تلقى تعليمه الإبتدائي بالمدرسة الابتدائية بمسقط رأسه بالجم والثانوي بالمدرسة الصادقية، وحصل على الإجازة في الحقوق من معهد الدراسات العليا في القانون بتونس عام 1956، وهو مرسم بجدول المحاماة منذ 1978. ثم حصل على الدكتوراه في القانون الاجتماعي عام 1976 من جامعة السوربون . أب الصناديق الاجتماعية من أبرز ما يضيء تاريخه السياسي، أنه كان مهندس النظام الاجتماعي في تونس، حيث شغل وزارة الشؤون الاجتماعي من 1974 الى 1979 في عهد الهادي نويرة، واستقال منها في ديسمبر 1977 مع مجموعة من الوزراء إثر توقف الحوار الاجتماعي وتأزّم العلاقات بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، وقد أدّت هذه الأزمة إلى الإضراب العام في 26 جانفي 1978 والإعلان عن حالة الطوارئ ومحاكمة أعضاء الاتحاد العام التونسي للشغل . ثم شغل نفس المنصب في سنة 1979 وحتى سنة 1985 في عهد محمد المزالي، وبقي الى الان من أهم الأسماء التي حملت حقيبة وزارة الشؤون الاجتماعية، نظرا لبصمته الواضحة في هذا الملف، حتى أن من تابعوا مروره عبر هذه الوزارة يلقبونه «بأب الصناديق الاجتماعية « . المهام الدولية مسيرة الناصر امتدت أيضا الى خارج حدود الوطن والى مهام دولية ، حيث شغل مهمة رئيس البعثة الدائمة لتونس لدى الأممالمتحدة ( 1991 -1996) و منسق الميثاق العالمي للأمم المتحدةبتونس (2005) ورئاسة لجنة التنمية الاجتماعية بنيويورك ( 1965 )ورئاسة المؤتمر الدولي للتشغيل بجنيف ( 1976 )ورئاسة المؤتمر الدولي للشغل بجنيف ( 1985) ورئاسة اللجنة الدولية لحقوق الإنسان بجنيف (1993.) الفنان لشخصية محمد الناصر بُعد اخر خارج السياق السياسي، فالناصر من عشاق الموسيقى وهو مؤسس المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية في الجم، مسقط رأسه، سنة 1986 وهو من أوفى رواد هذا المهرجان على امتداد السنوات الماضية، إضافة الى انه يتقن العزف على عدد من الآلات الموسيقية.