من مفارقات الوضع التونسي ان القانون الانتخابي قرر شهر اكتوبر كموعد للانتخابات التشريعية وهو موعد لا يسمح للحكومة الجديدة بان تنطلق من نقطة الصفر لتشرع في تقديم تصوراتها وتحديد المشاكل ومكامن الازمات وتلمس الحلول الممكنة لها .. حكومة الشاهد رغم انها ستغادر بعد ايام معدودة وضعت قانون المالية لسنة 2020 وقدمته الى البرلمان في الموعد المحدد قانونا وهو قبل 15 اكتوبر من كل سنة والاكيد أنّها تخلّصت من عبء ثقيل ألقت به من على اكتافها ل»يسقط» مباشرة على كاهل الحكومة الجديدة التي ستنطلق في عملها في شهر ديسمبر القادم ان زالت الحواجز أمام الحزب المكلف بتشكيلها ووجد يسرا كبيرا في التفاوض مع «مؤثثيها» وأول ما ستجد امامها ملف الميزانية التي وضعت كسابقاتها دون نظر الى وضعية البلاد حيث تم الترفيع لتكون في مستوى 47 مليار دينار مقابل 40,662 مليار دينار في 2019 وهو ترفيع فرضه ارتفاع حجم كتلة الاجور التي ستتجاوز 19 مليار دينار وهو مبلغ اقل بقليل من نصف الميزانية وهو ما يعني ان هذه الميزانية غير متوازنة اذ ان التهام الاجور لما يقارب عن نصفها سوف لن يترك أي متسع او فسحة مالية للحكومة الجديدة لتلبية تطلعات المواطنين في التنمية والذين عليهم ان يؤجلوها على الاقل لسنة اخرى وعلى الحكومة الجديدة ان تمتلك «ميزان ذهب» لتوزيع مبلغ 6 مليارات دينار المخصصة للتنمية على كل الجهات التي تنتظر حظها من التنمية وما اكثرها ولا نخال ان هذه الستة مليارات دينار ستلبي مطالب جهة واحدة من الجهات المفقرة وهي الاكثر اتساعا جغرافيا وسكانيا بل ان الحكومة الجديدة عليها ان توفر اولا موارد ذاتية تغطي هذا المبلغ المرصود للميزانية الجديدة التي يمثل حجمها 40 في المائة من مجمل الناتج المحلي في مخالفة صريحة للمقاييس العالمية في هذا المجال والتي تصنف الميزانيات المتوازنة بانها تلك التي لا يتجاوز حجمها مستوى 20 بالمائة من الناتج المحلي الخام لأي دولة وهو ما يحتم على الحكومة الجديدة ان «تضرب اخماسها في اسداسها» لتغطية الفارق بين الميزانية ومداخيل البلاد وقدرتها على توفير الموارد التي تسند بها حساباتها المالية حتى لا تختل وستكون الحكومة الجديدة محاصرة بخيارين لا ثالث لهما اذ لا يجب ان تكون الموارد الاضافية للميزانية في شكل أداءات لان ظهر المواطن والمؤسسات الخاصة «انقسم» جراء اثقالهما بضرائب عديدة في السنوات الثلاثة الفارطة وايضا عليها ان لا تلتجئ الى الاقتراض لا من الخارج ولا من الداخل ولان موارد الدولة مهما «استقوت» لا تقدر على توفير موارد تغطي حجم الميزانية فان واضعي قانون المالية لسنة 2020 اغلقوا آذانهم على نواقيس الخطر التي تقرع بشدة حول ارتفاع حجم ديون البلاد وواصلوا الاقتراض الذي سيكون في سنة 2020 في مستوى 12 مليار دينار حيث سيصل حجم الديون بالضبط الى 11678 مليار دينار وهو ما يعادل ربع ميزانية الدولة للسنة القادمة موزعة بين ثلاثة مليارات دينار في شكل قروض داخلية و9 مليارات دينار ستتم تعبئتها من الخارج وعلى هذا التمشي من المنتظر ان يصل حجم مجمل ديون تونس في نهاية سنة 2020 الى مبلغ 97 مليار دينار أي أكثر من 93 بالمائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وهي نسبة مرتفعة جدا ستمنع تحسين نسبة النمو بل من المؤكد أنّ تونس ستخسر 1,7 بالمائة في نسبة النمو لان المقاييس العالمية تخصم نقطة في مؤشر النمو ما إن يتجاوز التداين الخارجي نقطة واحدة فوق نسبة 77 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. خطوط نار عديدة لان حكومة الشاهد واصلت سياسة الحلول السهلة معتمدة على شعار «اليوم خمر وغدا امر» ولان «الغد» لا يهمها فقد تركت ذلك «الامر» الى الحكومة الجديد والذي سيكون «أمرّ» من الحنظل فالحكومة الجديدة ستجد نفسها في مواجهة وعودها «السخية» التي سوقتها لكسب اصوات الناخبين الذين لن ينتظروا كثيرا ليقفوا على حقيقة تلك الوعود وليروها تتحول الى واقع معيش .. لكن كيف السبيل لذلك؟ الحكومة الجديدة ستسير بين خطين من النار سيضطرمان اكثر اذا سارت عكس ارادتين مختلفتين اولهما ارادة صندوق النقد الدولي الذي بناء على رايه في مدى تطبيق الحكومة الجديدة لمقترحاته سيكون حجم اسناد باقي المؤسسات المالية العالمية لتونس فصندوق النقد الدولي الذي انهى مد البلاد بقرضه الممدد بعد ان منح اخر اقساطه مؤخرا لن يفكر في اقراض تونس أي دولار اضافي اذا سارت عكس رغباته واولها التخفيض في كتلة الاجور الى مستوى 12 بالمائة من الناتج المحلي الخام وهو مستوى يتجاوزه حجم الاجور في السنة المقبلة بثلاثة نقاط كاملة لا تستطيع الحكومة الجديدة اختصارها حتى بنقطة وحيدة لان اتحاد الشغل مستعد للدخول في «معركة كسر العظم» التي لوح بها قبل اشهر قليلة اذا ما تجرات الحكومة على المساس بتعهداتها معه او اخلت ببند واحد من اتفاقياتها او حتى تلكأت في التفاوض معه حول زيادات جديدة كما ان خوصصة المؤسسات العمومية المتعثرة التي تستنزف نسبة كبيرة من الاجور لا سبيل اليها في الفترة القليلة المقبلة أي كامل سنة 2020 قبل التوصل الى ارضية تفاهم حولها مع المنظمة النقابية بل لا يمكن الحديث عنها ما لم تحاول الحكومة تطبيق بعض الاصلاحات قد تنعش تلك المؤسسات وطبعا في ظل انخرام الميزانية ونفاد صبر منتظري التنمية وطالبي التشغيل في المؤسسات العمومية لا يمكن الحديث عن أي اصلاحات ممكنة لتلك المؤسسات التي استفحل «مرضها» وتعاظم عجزها ولا طاقة للدولة بإسعافها فحجم الخلل بها وصل الى مستوى 4 مليارات دينار على الحكومة تغطيته تجنبا لإحالة قرابة 600 الف عامل وموظف بما يزيد عن 400 مؤسسة عمومية متعثرة الى البطالة .. اما خط النار الثاني فهو المواطن المفقر الذي اشبعوه سخرية لأنه اقبل على «المقرونة» دون ان يكلف احد نفسه عناء البحث عن اسباب اقباله على «المقرونة» ولم يقل احد ان «الجوع كافر» وان «الفقر» عدو يجب قتله .. هذا المواطن جاع وتعرى ومرض ولم يجد ما به يعالج نفسه ولا يملك منزلا ولا يملك من اسباب الحياة الى «النفس» بين زفير وشهيق وهو لن ينتظر سنوات اخرى ليعيش على الاماني فيما الفقر والجوع والمرض يحاصرونه من كل حدب وصوب وعلى الحكومة الجديدة تجنبا لاي انفجار اجتماعي ستكون عواقبه وخيمة المسارعة بوضع حل لهذا المواطن .. انتظار الافضل يعيش عليه ايضا المواطن الموظف وكل مكونات الطبقة الوسطى في تونس التي تآكلت وتقلصت بفعل ارتفاع الاسعار الذي تجلى في وصول نسبة التضخم الى 6,7 بالمائة ورفضها «النزول» عن هذا المستوى رغم اجراءات البنك المركزي العديدة لان بقية الحل موجود عند الحكومة وهو اسناد الدينار للتخفيض من ارتفاع الاسعار لان كل المنتجات تدخل في تركيبتها او في اسباب انتاجها مواد مستوردة بالعملة الصعبة وتكاليفها ضخمة مادام الدينار في مستواه الحالي امام سلة العملات الاجنبية الرئيسية. لا خيار امام الحكومة الجديدة لتجنب أي انفجار اجتماعي بصفة مبكرة إلاّ التحلي اولا بالصدق في مخاطبة المواطن حول حقيقة الاوضاع الاقتصادية والافاق الزمنية التي يجب ان تتوفر لها لتلبي المهم من متطلباته مستغلة «حالة الوعي» التي طغت مؤخرا مع الشروع في تشخيص حقيقي وموضوعي للأوضاع الاقتصادية والدخول مباشرة في برنامج إصلاح هيكلي بشجاعة وقوة.