عبارتنا المتداولة الناصحة «المجالس بالأمانات» تقيّد حرّيتي في التعبير كلاما وكتابة إذ تلزمني بالصمت والكتمان على الكثير من الأفكار والمواقف والمعاني ممّا يعتبره أغلب الناس أسرارا لا يليق بالصديق إفشاؤها ما لم يكن بين الخلّين ثالث يتسرّب عن طريقه السرّ والخبر. والحقّ أنّ ذلك الالتزام الأخلاقي يحرمني من إفادة الغير ويحرم الغير من الاستفادة من تجارب الآخرين من الحاضرين والسابقين تلافيا لتكرار نفس الأخطاء. مثل هذا الموضوع له حساسيّة خاصّة لدى عامة الناس، وفي أوساط النساء بالخصوص، ولكنّه يصبح موضوعا عاديّا في أوساط أرقى بالثقافة والثقة في النفس إلى درجة يفقد فيها السرّ سرّيته فيتساوى مع العلانية العامّة ويزول، تبعا لذلك، الحرج في الرواية الصادقة السليمة من التحريف والتزييف. ولنا أسوة في الكبار من مشاهير العالم في الآداب والعلوم والفنون والسياسة والرياضة ممّن أدرجوا أسرارهم في الملك العام من خلال ما تحدّثوا به وصرّحوا به مشافهة أو كتابة في الحياة أو سمحوا بإظهاره للقرّاء بعد الوفاة . من أمثلة ذلك أجناس أدبيّة أذكر منها اليوميّات والمذكّرات والرسائل، والسيرة الذاتيّة بصورة أشمل . وهي من أمتع ما يقرأ الناس عن كبارهم من أعلام الرجال والنساء عبر التاريخ بما تضمّنت صفحاته من طرائف الأدب وخفايا الحبّ والحرب. وهل ثمّة كتابة أصدق من ساعة البوح بإرادة قويّة وشجاعة متينة، ولا أقول حالة ضعف وانهيار، بل أقول حالة حبّ عارم وتجرّد صوفيّ تسمو بالباثّ إلى أعلى مراتب الإنسانيّة . في هذا المستوى من السموّ يتخلّص الإنسان الكبير بعقله، الواسع بقلبه، من فرديّته وينصهر في الجماعة كالمتحرّر من قيد الناسوت، المتّحد مع اللاّهوت في مطلقه الخالد. كبار الكتّاب من الأجانب خاصّة، وبعض العرب، أدركوا ذلك المعنى وبلغوا ذلك المستوى فلم يستأثروا بسرّ ولم يتستّروا على حقّ ولو كان على أنفسهم، بل اعتبروا كلّ ما لديهم ملكا مشاعا ووفّروه لكلّ طالب علم ومعرفة حتّى ما كان من حياتهم الشخصيّة والعاطفيّة والعائليّة . لم ينقص منهم ومن قيمتهم شيء عندما كشفوا عن المستور، بل بالعكس، ازدادوا رفعة لدى قرّائهم بكامل التقدير وتمام الإعجاب. أولئك قرأنا لهم قصصهم وقصائدهم فعرفنا أشياء عنهم، ثمّ فتحوا لنا صدورهم برسائلهم فأنارت لنا جوانب أخرى ما كانت الصورة تكتمل من دونها . فمن هم الكبار في تونس في مستوى جان جاك روسو وفيكتور هيقو وألكسندر دوما وفلوبار وجان بول سارتر لننتظر منهم مراسلات شخصيّة وأدبيّة تقرّبهم من قلوبنا أكثر وترغّب شبابنا المدرسي والجامعي في قراءة الأدب الذاتي الموافق لأعمارهم عسى أن تغريهم الأسرار التي يستمتعون بها بحثا عنها واكتشافا لها ؟ أنا لم أعد ملزما» بأمانات المجالس»، ولن أفرّق فيما أكتب بين أسراري وأسرار معارفي من الشخصيّات الوطنيّة .هم يعتبرونها أسرارا، وأنا أعتبرها ثقافة مباحة للجميع، ولكلّ قارئ حقّ فيها ونصيب منها، في حدود ما يمكن أن يكون لها من القيمة. وأقول لمن قد يلومني : " كفانا أنانيّة" ثمّ أحيله على السيرة النبويّة وآيات أخرى من القرآن ذاته عن حياة الرسول الخاصة، أقصد مع أزواجه ممّا نبّأنا به العليم الخبير، وهو (ص) أكبر الكبار وأشهر المشاهير . فمن نحن بأسرارنا أمامه ؟ !