تعيش تونس اليوم على وقع حدث بارز على درب إرساء لبنة أخرى في البناء الديمقراطي. اليوم تنتهي رسميا عهدة البرلمان القديم المتمخّض عن انتخابات 2014. وتبدأ عهدة البرلمان الجديد والتي سوف تتواصل إلى غضون 2024. هذه المحطة توفر فرصة مثالية للتأمل في أداء البرلمان القديم عساها تكون دروسا مستفادة لنواب البرلمان الجديد تساعدهم على الاضطلاع بدورهم على الوجه الأكمل وإكساب العمل البرلماني الجدوى والنجاعة المطلوبتين في هذا الظرف الدقيق والحساس الذي تمر به البلاد. برلمان 2014 ارتكز في البداية على توافق كتلتين هما الأكبر مما أعطى دفعا هاما لعمل المؤسسة البرلمانية قبل أن تنقلب الموازين فيما بعد وتضرب الانشقاقات والسياحة الحزبية لينعكس كل ذلك على حصيلة عمل البرلمان. ذلك أن كتلة نداء تونس التي حازت الأغلبية (86 مقعدا) ودخلت في مرحلة توافق (حذر) مع كتلة النهضة (68 مقعدا) سرعان ما تشقّقت بتشقق حزب نداء تونس. وهو ما أفضى إلى إضعافها وإرباكها. فمن رحمها ولدت كتل ومن رحمها تسرّب نواب لينطلقوا في رحلات تيه سياسي وسياحة حزبية أحالت كتلة الحزب التي كسبت انتخابات 2014 إلى شظايا زادت في عقم عمل المؤسسة البرلمانية. وقد شكل الإخفاق في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية أبرز علامات إخفاق البرلمان المتخلي علاوة على عشرات القوانين الحيوية للبلاد التي تكدّست في الرفوف وعجز النواب عن تمريرها إما لغياب الإرادة السياسية أو نتيجة الصراعات والتناقضات التي طبعت أداء النواب والكتل.. أو نتيجة الغيابات التي أجهضت الكثير من الجلسات التي كانت تبدو هامة وحساسة. وعلّقت عليها في حينها آمال كبيرة للدفع نحو تمرير العديد من القوانين. ليس هذا فقط. بل إن عجز البرلمان المتخلي تجسّد كذلك من خلال غياب النجاعة عن عمل لجان التحقيق التي شكلت لمتابعة هذه القضية أو تلك والتي انتهت إلى قبر هذه القضايا وملفاتها بما فيها ليبقى الشعب على ضمئه ولتهتز ثقته أكثر فأكثر في نوابه... هؤلاء النواب الذين تنافسوا في كثير من الأحيان على استعراض عضلاتهم في الفوضى والخروج عن النص والتهافت على الأضواء بشكل كرّس صورة قاتمة للعمل النيابي وللسياسة بشكل عام لدى شرائح كبيرة من الشعب التونسي.. ونتيجة كل هذا واضحة وجلية من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة التي سجّلت تراجعا للأحزاب بسبب تراجع المصداقية في أداء منتسبيها حيثما تبدلت مواقعهم. الآن يبدو المشهد مغايرا كليا.. فكتلة النداء تبخّرت. وتفرق «دمها» بين الأحزاب والقائمات. وكتلة النهضة تراجعت. وبرز في الساحة قوى جديدة ولاعبون مختلفون وهو ما يؤشر إلى تعايش صعب تحت قبة البرلمان مما قد يفضي إلى مزيد تعطيل أو إضعاف أداء المؤسسة النيابية.. ولن يكون بالامكان تفادي أخطاء وعوامل شلل البرلمان الماضي إلا متى تسلّح النواب الجدد والكتل الجديدة والقوى السياسية الوازنة بدرجات عالية من الرصانة ومن الحرص على إعلاء المصلحة العليا للبلاد بعيدا عن كل العنتريات والاصطفافات والبحث عن استعراض العضلات. ذلك أن المرحلة دقيقة جدّا والبلاد لم تعد تحتمل المزيد من التعطيلات والعراقيل.. البلاد تحتاج إلى ارتقاء درجة الوعي لدى الجميع لتكسب العمل البرلماني النجاعة المرتقبة وتجنب البلاد الدخول في متاهات التجاذب والانقسام التي لن يكسب منها أحد.