على طول الطريق الوطنية عدد 13 الرابطة، بين مدينتي سبيطلةوالقصرين وبالتحديد على مستوى منطقة الهراهرة، ترمي بصرك، فتجد باعة أطفالا لا يتجاوز سنهم 15 سنة، منتصبين بالخضر والجرجير (الحارّة) والدجاج في الوقت، الذي يجب أن يكونوا في مؤسساتهم التربوية. القصرين (الشروق) نزلنا من السيارة للحديث مع بعض الأطفال. فلم نستطع تحديد من سنتحدث إليه أولا من كثرة المنتصبين منهم هناك على جهتي الطريق. فجلب انتباهنا، في الجهة المقابلة طفل صغير الحجم، يجلس فوق كوم من الحجارة وأمامه دجاجات يعرضها للبيع. قطعنا الطريق واقتربنا منه. وبدأت تتوضح ملامحه شيئا فشيئا... فهو طفل ذو ثياب بالية ووجه شاحب مجعّد ونظرة منكسرة، يصدم أي شخص يراه للوهلة الأولى. فقد ظهرت علامات الارهاق و الفقر على وجهه، مما أفقده ملامح طفولته. ودون مبالغة كانت التجاعيد تملأ وجهه كأنه شيخ. فقد حمل على عاتقه كل هموم الدنيا. جلسنا الى جانب «حلمي « البالغ من العمر 12 ربيعا. وكان يعرض دجاجاته، التي أحكم وثاقها في عمود حديدي على قارعة الطريق حتى لا تهرب... طفولة... بدون أحلام «حلمي» هو الأخ الأصغر في عائلة تتكون من تسعة أفراد. يعاني والده من مرض مزمن. وتشتغل والدته وإخوته في الحقول. إذ يخرجون عند بزوغ الشمس لجمع نبتة الجرجير (الحارّة). ويعودون للانتصاب بها على قارعة الطريق. وهو الوحيد الذي يدرس في عائلته. ويغادر قاعة الدرس عند منتصف النهار ليتحوّل مباشرة الى مكانه المعتاد لعلّه يظفر بِزَبون من المارة يشتري منه دجاجة ب 10 دنانير يضمن بثمنها قوت يومه وعائلته. و يقول: "عند الخروج من القسم أريد أن أعود الى البيت لمراجعة دروسي وأن ألعب مثل أترابي. لكن أخي الأكبر يجبرني على بيع الدجاج لمساعدة عائلتي، لا أملك حلولا أخرى... ولا أدري ماذا أفعل؟»... ويتساءل حلمي ونبرة اليأس بادية على صوته الذي لا يكاد يُسمع حين يتكلم. فهو هادئ وقليل الكلام. ولكنّ عينيه تفضحان ما يكتمه. وكأنه متيقن أن مصيره سيكون نفس مصير إخوته وأبناء جيرانه وأهالي قريته التي تحتوي على أكثر من ألفي ساكن يعيشون تحت خط الفقر، وخاصة ان أغلب الأطفال ينقطعون مبكرا عن الدراسة. ويكون مصيرهم الحتمي إما الأشغال التي لا تسمن ولا تغني من جوع وإما المجهول..!!! تخطينا الطريق المعبدة. حيث توجد مدرسة الآثار الابتدائية بمنطقة الهراهرة والتي ينتصب أمامها عماد البالغ من العمر 16 سنة. وهو يعرض بعض الحلويات والعصير والشوكولاطة على لوحة خشبية يسندها بقطعتي آجر. طفولة... مشرّدة عماد مثله مثل أغلب أطفال منطقة الهراهرة... انقطع عن الدراسة من السادسة ابتدائي بسبب ظروف عائلته المزرية التي حالت دون إتمامه دراسته. وهو العائل الوحيد لأسرة تتكون من خمسة أفراد يعانون كلهم من إعاقات وأمراض مزمنة، قائلا في حديثه ل»الشروق» إنه استعار مبلغا ماليا ليقتني به بعض الحلوى. ويركّز «نصبة» أمام مدرسة الجهة ليساعد بها عائلته. ويتابع عماد:» التلاميذ لا يشترون مني لأنهم لا يملكون المال... وضع البائع والشاري واحد ... الأوضاع متشابهة في هذه القرية ... كلنا فقراء!!! قطعنا الطريق الى الضفة اليمنى متوجهين نحو دوّار «الجرابعية». حيث مئات المنازل الفوضوية المتلاصقة التي لا تحمل من صفات المنازل سوى الاسم..فأغلبها عبارة عن منازل مهجورة. وتقطن بها عائلات أقل عدد أفرادها 8 وكل أطفالهم لا يدرسون بسبب الظروف الاجتماعية. لم يتوان هؤلاء عن الاندفاع وسرد معاناتهم اليومية عندما ما علموا أن صحفية تزور المكان. وكأنهم كانوا يعيشون في عداد المنسيّين الذين لا ينتمون إلى دولة. ولا يعترف بهم مسؤول أو يتفقّدهم. معاناة وفقر تجمّع حولنا العشرات من الأطفال... ملابسهم كانت رثة والشعر مجعد وغير مرتب. وأقدامهم حافية غطّت ملامح جمالهم الحقيقية... ففي منطقة الهراهرة غلبت الحاجة والخصاصة والفقر أصحاب البشرة البيضاء والعيون الملوّنة. وكادت تهزمهم بالضربة القاضية بعد أن تفشّى فيهم مرض الحصبة بداية سنة 2019. وهلك منهم العشرات. وتم إنقاذ مئات الآخرين منهم. هدى أم عشرينية اعترضتنا حين دخلنا دوّار الجرابعية حاملة ابنتها البالغة من العمر سنة ونصفا. و هي الأخرى مازالت طفلة في الحقيقة. فعند تجمّع النساء حولك لا تستطيع أن تفرّق بين الجدّة والأم والبنت... وكأن قدر الأطفال في «دوّار الجرابعية» هو الكثرة دون أن يتمتعوا بالحياة... الأم العشرينية هدى الهرهوري لم تتعلّم. ولم تطأْ قدماها المدرسة. وقد تحدثت بنبرة صوت مرتفعة. وكأنها تريده أن يُسمع من أي طرف بيده المساعدة:"مَرِضت إبنتي بالحصبة واقامت 7 أيام بالعناية المركزة في المستشفى الجهوي بالقصرين ولم أجد لها ثمن الدّواء... « وتضيف هدى:»... نحن لا تربطنا بالدولة سوى بطاقة العلاج... وقد تفشى فينا داء الحصبة بسبب الفقر والخصاصة والجوع والأوساخ وغياب أبسط ظروف العيش الملائم. وهو يعود إلى تهميش الدولة وغياب التنمية وعدم اهتمام المسؤولين الذين لم نرهم سوى في الانتخابات لشراء أصوات الناخبين وذممهم بأموالهم... « مندوب حماية الطفولة على الخط حملنا كل هذه المعاناة. وطرحناها على مندوب حماية الطفولة بالقصرين بوبكر بن عباس الذي أكد أن دور المندوب هو وقائي وحمائي للطفولة بالأساس. وقد تم خلال سنة 2017 إصدار منشور مشترك بين وزارة الشؤون الاجتماعية والتربية يحدد دور كل طرف في متابعة الأطفال المنقطعين عن الدراسة وغير الملتحقين بها. ووضع لجنة مختصة في الغرض. وقد تم في هذا الإطار بداية من السنة الدراسية 2020-2019 التدخل في المدرسة الابتدائية الاثار بسبيطلة (مدرسة الهراهرة). حيث اشتكى الأولياء من الاكتظاظ. وعمدوا الى غلق المدرسة وقطع الدروس. وتم التعهد بحلحلة هذه الوضعية. وقال بن عباس إن مندوبية حماية الطفولة تتصدى لكل أشكال تشغيل الأطفال. لكنّها تبقى من الظواهر التي لا يمكن حصرها بسبب نقص الآليات الموضوعة على ذمة المندوبية. ومن جهته، أكد المندوب الجهوي للمرأة والأسرة والطفولة بالقصرين الزين نجلاوي أن المندوبية الجهوية للمرأة والأسرة والطفولة وكبار السن تدخلت إثر انتشار مرض الحصبة بمنطقة الهراهرة. واتخذت جملة من القرارات للحد من مختلف الاشكاليات الاجتماعية، والصحية، والتربوية والاقتصادية على غرار تجهيز فضاء متعدّد الاختصاصات بالمدرسة الابتدائية الهراهرة لتوفير خدمات التنشيط التربوي والاجتماعي للتلاميذ وتمويل 5 مشاريع لفائدة أمهات الأطفال المهدّدين بالانقطاع المدرسي بسبب الظروف الاجتماعية للعائلات. كما أفاد النجلاوي بأنه تم قبول مجموعة من الأطفال المتمدرسين بمدينة سبيطلة أصيلي منطقة الهراهرة فاقدي السّند والمهدّدين على معنى الفصل 20 من مجلة حماية الطفل والراغبين بالانتفاع بالخدمات التربوية والاجتماعية المسداة بالوسط الطبيعي لمركب الطفولة بسبيطلة بالإضافة الى إجراء حملات تحسيسية وتوعوية للتصدي لظاهرة تشغيل الأطفال والانقطاع المدرسي والسلوكات المحفوفة بالمخاطر كالتدخين و المخدرات والعنف.