بقلم: سهيل بيوض (ناشط حقوقي ورئيس جمعية فورزا تونس) قامت الدنيا ولم تقعد في عالم المسيحيين الكاثوليك بعد أن وقع عرض تمثال تشويهي للإله الكنعاني "مولوش" - المُحرم في العهد القديم من الانجيل والذي يقع التقرب اليه عبر حرق الاطفال حسب الاسطورة - في مدخل كوليزي روما على هامش فعاليات المعرض الذي دشنه وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين وسفير تونسبروما، تحت عنوان "قرطاج الاسطورة الخالدة"، هذا المعرض المهين لحضارتنا ولأمجادنا والذي سوف يتواصل الى حدود 29 مارس 2020. وبعد ان تساءلنا مرارا وتكرارا عن مدى هذا اللاوعي الفظيع لدى صناع القرار في تونس ما بعد الثورة، والتي باتت مأساة بين الامم بعد ان صفق لها العالم وحملت آمال كل الشعوب المضطهدة من "وول ستريت" الى "هونغ كونغ"، حريّ بنا التذكير مرة اخرى باتهام روما والغرب عامة لنا منذ القدم بحرقنا لأطفالنا، لذلك أردنا في هذه الورقة دراسة هذا المبحث من منطلق واقعنا. والسؤال المطروح هو: هل نحن فعلا شعب يحرق اطفاله بطريقة او بأخرى (فقر، تهميش، يأس، حرقة... الخ) أو أن الغرب واوروبا تحديدا تبيعنا أوهاما وتفرض علينا سياسات تؤدي بنا الى ما نحن فيه من واقع مرير كي تتهمنا بعدها بارتكاب الفظاعات على بني وطننا هنا في تونس؟ لقد مثلت الديبلوماسية التونسية على امتداد 6 عقود، المثال الحسن للمحافظة على السيادة وعلى حد ما من الاستقلالية، سيما وأن بلادنا من ضمن الدول التي اسست مجموعة دول عدم الانحياز، اما اليوم فنحن ازاء تهافت وتدافع مخيف قصد الزج بتونس في محاور اقليمية ودولية لا تخدم مصلحتنا العليا وقد تؤدي بنا الى الفقدان الكامل للسيطرة على اراضينا وثرواتنا وعلى تقرير مصيرنا، اي إلى حرب اهلية تدفع الى تدخل أجنبي وتقسيم الوطن الى مناطق يستعمرها ويستغلها كل طرف على حدة. فالمتابع النزيه لتطورات الاوضاع في تونس ما بعد "الثورة" لا يمكن ان يفوته التغول الفاحش للحقل السياسي، في كل المجالات الحيوية للدولة والمجتمع ودون رقيب او حسيب. فنحن اليوم في وضع صناع القرار فيه، سياسيون لا يخضعون الى اي مقياس تحدده المصلحة الوطنية العليا للبلاد، وقراراتهم تُأخذ رغم انف الاخصائيين والخبراء والمناضلين الوطنيين الذين ما فتئوا منذ 2011 ينبهوننا الى الوضع التعيس. فمن المنطقي اذن ان تسعى القوى الاستعمارية الجديدة الى السيطرة على هذه الطبقة المنفلتة عن رقابة الشعب التونسي والمدججة بالصلاحيات حد العبثية فيكفي ان يسيطروا على هؤلاء كي يحكموا قبضتهم على البلاد وشعبه ومقدراته ومستقبله. وورقة التوت التي تخفي عورة السياسيين هي التشدق بالديمقراطية والانتخابات واصوات الشعب وكل هذه المفردات التي اصبحت تعلة لفرض ديكتاتورية جديدة تعزل الشعب عن صنع القرار وفي نفس الوقت تخلق له فئة تعج بالفاسدين تعيش بعيدا عن يد العدالة وفي مأمن من غضب الشعب الذي أصبح غريبا في بلاده وهو يرى ثورته تفتك منه لتستثمر كعلف للفساد وبيع الذمم. "شباك اوفرتون" ومحرقة ارادة الشعب ومن الاليات التي فرضتها علينا الايادي الخفية التي عبثت بثورتنا كما شاءت منذ 2011 هي آلية "شباك اوفرتون" بوصفها تقنية مستخدمة في الهندسة الاجتماعية ترنو الى جعل المجتمع يتقبل افكارا وتصورات كان يرفضها سابقا بشكل قطعي كي تصل به درجات التدجين الى حد القبول بالأشخاص الذين يحملون هذه الافكار المفروضة كصناع القرار في غد قريب. تنفيذ هذه الآلية على المجتمع التونسي جرى عبر مراحل في سنوات ما بعد الثورة يمكن اختزالها في خمس محطات رئيسية. التحضير لتنفيذ هذه الالية تزامن مع تحرير الاعلام والعمل المدني والسياسي وتصادم خلاله فكريا وميدانيا تياران يمكن عموما تسميتهما: الاول بالتيار الحداثي التقدمي والذي يضم اليسار والكثير من التشكيلات السياسية حديثة النشأة والتي تتبنى فكرا تقدميا وحداثيا ومبادئ كونية على غرار الحرية والديمقراطية والمساواة... وشق ثان يمكن ان نسميه الشق المحافظ الذي يجمع التيارات المتشددة والسلفيين والاخوان والارهابيين. خلال هذه المرحلة صدم الشعب بتصادم هذين الشقين الاقليين في المجتمع وذهب حد التعجب بعد احداث سينما الافريكا والعبدلية وبرسيبوليس...الخ، سيما ان شعار الثورة شغل حرية كرامة وطنية لم يتحقق منه شيء. فكيف تدرج بنا الحال من توق 99 في المائة من الشعب التونسي من التطلع للعيش الافضل وتحقيق الكرامة الوطنية واسترجاع الثروات المنهوبة ومحاسبة الفاسدين والتوزيع العادل للثروات والعدالة الاجتماعية ... الى أن نصل اليوم الى اعلام وفضاء عام يهيمن عليه الحديث عن اقليات وظواهر ارهابية وقضايا مفتعلة كالمساواة في الارث والمثلية وتعدد الزوجات وصناديق الزكاة وغيرها؟ وكيف وقع تغييب ارادة الشعب التي تلخصت في شعارات الثورة كي يصل الى السلطة اناس يمثلون شقوقا متطرفة من اقليات فكرية واجتماعية؟ المرحلة الاولى بدأت فيها الفضاءات الاعلامية المهيمنة و"الكرونيكورات" المفروضين بتطعيم الحديث عن مطالب الشعب المشروعة بحديث عن هذين الشقين المتطرفين كي يبدأ في اللاشعور الفكري لبعض الافراد من المجتمع التونسي لا اقول القبول بالأفكار المسقطة او المتطرفة لهذين الشقين الذي يبعد كلاهما كل البعد عن المجتمع التونسي وتطلعاته بل وعي بأن هذين الشقين موجودان ولكنهما متطرفان لا يمثلان الاغلبية ويمثلان خطرا علينا. وبعد ان فتح الاعلام فضاءاته "لأخصائيين" كي يفسروا هذه الظاهرة بطرق علمية ودون تعليلها او بسط حلول لمجابتها بل يكتفون بالعمل على جعل جانب من المجتمع (أقلية) يعي ان لهذه الظاهرة وجودا اجتماعيا ككل المجتمعات بالرغم من انها مرفوضة لكونها متطرفة، لذلك علينا ان نكون على درجة من الوعي بها، لان الاعلام المدجن، للأسف، كان يكذب على الشعب ويغالطه. المرحلة الثانية فتح فيها الفضاء الاعلامي لممثلين من الشقين لإدارة نقاشات بزنطية مثيرة وصدامية ومتشنجة بين ممثلين عن هذا وذاك و"كرونيكورات" تستغل هذه الظاهرة الجديدة في المجتمع والتي اساءت استخدام حرية التعبير كي لا ترتقي الى حد النقاش الموجود الذي يؤدي بنا الى التقارب وبناء مشروع وطني تشاركي يحفظ سيادة الدولة والمصلحة العليا لشعبها بل الى تشنج عام وتذبذب في الآراء اجبر الكثير من التونسيين الى الاصطفاف معنويا والى التعاطف الفكري مع احد الشقين فاصبح بذلك التطرف نوعا ما مقبولا في فكر البعض من المجتمع التونسي بعد اصبحت لهذه الافكار المتطرفة والتي لا تزال مرفوضة في المجتمع التونسي ووجوه وملامح ترى وتسمع وتعبر وتؤثر على حساب المطالب الاولية والاساسية للثورة. فأصبح بالتالي كل من لا يزال بهذه المطالب المشروعة ويرفض دخول اي متطرف من اي شق كان الميدان ينعت بالاستئصالي والكافر او الرجعي وغيرها من العبارات التشويهية التي ساهمت في خلق هوة في المجتمع التونسي وتوسيعها. المرحلة الثالثة تغول فيها صناع الآراء المصطنعين والمفروضين في الفضاء العام من اعلام مهيمن واخصائيين وخبراء وفاعلين متطرفين بما جعل من الفضاء العام اداة لأجل اتهام الاغلبية بالتطرف في عدم قبول التطرف والشذوذ الفكري والسياسي والاجتماعي من الشقين المذكورين. وبالتالي يصبح ابن البادية او الاحياء الشعبية مثلا مجبورا على ترك مآسيه اليومية جانبا والانشغال بما يتم طرحه في الحصص التلفزية ذات المشاهدة العالية و"بلاتوات" الاذاعات الاكثر استماعا والتي وصلت الى مرحلة الاضمحلال المعنوي للأفكار والاحلام والتطلعات والذوات الحقيقية للشعب والتي كانت في الامس القريب أصل الثورة ومبتغاها. وانيا ندخل في المرحلة الرابعة التي أصبح فيه المتطرفون لهم شعبية ورموز في المجتمع يصولون ويجولون ويدافع عنهم الاعلام والقضاء وتفرضهم منظمات غير حكومية طالت يدها وتغولت في المجتمع حيث تمولهم وترعاهم ثم تدير ظهرها الى من كانت تغازلهم في الامس القريب ايهاما بتحقيق مطالبهم. ولذلك لاحظنا بروز شواذ مثل المدعو سيف الدين مخلوف وسعيد الجزيري وعماد دغيج وراشد الغنوشي وبشرى بالحاج حميدة وسعيدة قراش ومعز بعطور وغيرهم بينما اضمحل وغاب من الساحة الاعلامية ابناء الشعب وآراؤهم الثورية التي كانت في الامس القريب مشروعة. المرحلة الخامسة والاخيرة استغل فيها هؤلاء الشواذ والاقليات المجتمعية المتطرفة من الشقين التي فرضها علينا البعض من الاعلام المسيطر وغير النزيه من اجل العمل السياسي، والوصول الى مراكز السلطة في الاجهزة التشريعية والتنفيذية من برلمان الى وزارات وكتابة دولة وغيرها من مؤسسات الحكم وذلك لتغييب مطالبنا الشعبية او استغلالها في المناورات السياسية دون فعل او تحقيق اي شيء منها على الميدان وتنفيذ اجندات حرق ارادة الشعب والتي اصبح الصندوق لا يعبر عنها بل وبفضل الية "شباك اوفرتون" اصبح الصندوق مجرد تعليل لديمقراطية واهية ومخادعة يضمحل فيها الشعب الى حد نسيان مطالبه المشروعة والاستقالة الكلية من الحقل السياسي والمدني ويتحول الى مجرد متفرج في ديمقراطية لا تمثله لأنها ديمقراطية اقليات وشواذ لا ديمقراطية الشعب. فاليوم يصعد راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان ب29 ألفا و662 صوتوا لقائمة حركة النهضة في تونس 1 علما وان نسبة عدم الرضاء الشعبي عليه بلغت 67.1 بالمائة حسب ما نشر في نتائج سبر الآراء كما صعد ائتلاف الكرامة بأكبر البقايا ونجده اليوم يفاوض في تشكيل الحكومة مرورا بتمظهرات عديدة كتولي سعيدة قراش وبشرى بلحاج حميدة مناصب استشارية وترؤس الهيئات دون تمثيل شعبي. هكذا إذن وصلت اوروبا وقوى اقليمية أخرى تتهمنا بحرق اطفالنا الى جعلنا محرقة ونحن مجرد متفرجين سلبيين. الجزء الثالث: الأسبوع القادم