قراءة في ما نراه يستحق العودة إليه والتوقف عنده من مختلف أحداث الأسبوع الماضي. الرجل الذي لم يفهم «أحيانا، لا يمكنك أن تفهم الدّور الذي كنت تؤدّيه إلاّ حينما تغادر الرّكح». استحضرت هذه المقولة للكاتب والمفكّر البولوني استنسلاو لاك وأنا أشاهد الفيديو الذي بثّه في شبكة التواصل الاجتماعي الرئيس المؤقّت الأسبق السيد منصف المرزوقي الذي أعلن فيه انسحابه من على رئاسة حزبه ومن الحياة السياسية عموما بسبب الفشل الذي مُني به في الانتخابات الأخيرة والذي قال إنّه يتحمله لوحده. لنعترف أولا للسيد المرزوقي بشجاعة تنقص الكثير من محترفي السياسة في بلادنا. الرجل وقف وقفة الرّجال في وجه النّظام السابق حين أظهر تصلّبه وتسلّطه وانحرافاته. وتكلّم حين سكت الكثيرون وتحدّى وتصدّى ودفع الثمن. وحين قامت الثورة أراد السيد المرزوقي، وذلك من حقّه، أن يستردّ ما استثمره وكان له ذلك. فاعتلى كرسي قرطاج مدة ثلاث سنوات أو يزيد. المشكلة هي أنه يوم تحوّل إلى رئيس جمهورية لم يفهم منصف المرزوقي أن الذي تغيّر هو جوهر الدّور وليس، كما كان يحلو له أن يقول، إن الشيء الوحيد الذي تغيّر عنده هو الديكور. وإن شرعيته النضالية الحقوقية، على قيمتها، لم تعد كافية ليكون رئيس جمهورية ناجح، وإنْ مؤقّتا. لم يفهم، ولعلّه لم يكن قادرا على أن يفهم، أن كل سياسة ناجحة تنطلق حتما من إدراك معمّق للحقائق ومن اهتداء بالواقع وبالنظرة الواقعية. سقط منصف المرزوقي سريعا في ثنائية قاتلة جعلته يقسم التونسيين إلى قسمين: وهم فاسدون كثيرون وصالحون قلائل، ثوريون ومناهضون للثورة، شرعيون وانقلابيون، بيض وسود. ألم تكن مبادرته الأولى إصدار «الكتاب الأسود» مستغلا ما أمّنته عليه صفته الرئاسية من حارس لأسرار التونسيين؟ منصف المرزوقي لم يكن قادرا أن يدرك أن هناك وقتا للثورة وآخر للحكم، وقتا للعقاب ووقتا للمسامحة. كان منصف المرزوقي يتغنّى بخصال نلسن منديلا لكنه كان يحلم بمثل روباس بيار ويفكّر بصوت عال في المشانق تُنصب في الشوارع. منصف المرزوقي لم يفهم أن الشعب كان يريد مجمّعا لا مفرّقا. ولم يفهم فانقلبت شجاعته إلى عناد وصدقه إلى مكر. ولم يفهم فانفضّ عنه شعب أتعبته الخطابات الثورية والوعود الجوفاء. انسحب منصف المرزوقي وطُويت صفحة. فقط أمنيتنا اليوم ألا ينقطع قلمه. لم نفهم ! ... انسحاب آخر لسياسي آخر. زياد العذاري كان من زعماء النهضة وأحد مدللي رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي. طيلة السبع سنوات المنقضية تحمل السيد العذاري مسؤوليات متميّزة في الحزب وفي حكومات ما بعد الثورة. الرجل شاب (44 سنة). مثقّف، فرنكوفوني، ينتمي الى جهة وازنة، متعقّل رصين وذو خبرة إدارية واسعة.. فلماذا ينسحب رجل له كل هذه المزايا؟ العديد من محاولات فهم هذا الحدث لأنه فعلا حدث رجّحت عدم اختياره رئاسة الحكومة لتفسّر انسحاب السيد العذاري من مسؤولياته صلب حركة النهضة. قد يكون في هذا شيء من الحقيقة لكنها ليست قطعا كل الحقيقة. إذا ما عدنا إلى المسؤوليات التي شغلها الرجل لاسيما الادارية منها والتي بوّأته تحمّل تسيير وزارات في حجم وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، ووزارة الصناعة والتجارة ندرك خطورة قرار انسحابه لأنه كمن يريد أن يبعث رسالة تتجاوز فحواها تعبيرها ليقول لنا إن المنسحب يعلم جيّدا ما يقوم به لأنه لم ينجح في إقناع زعماء حزبه أن توجههم الذي اتخذوه لاختيار من قد يتولى رئاسة الحكومة المقبلة ووزرائها وتوجهاتها ليس أمرا سليما. ما هي حجّة السيد العذاري التي تثبت وجاهة رأيه؟ والجواب هو: خبرته الواسعة ومعرفته بالأرقام، وبواقع البلاد، وبحقيقة موقعها من المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية... أليست المرحلة الراهنة مرحلة اقتصادية بامتياز؟ ثم ان للسيد العذاري حجة أخرى دامغة. إنه من الشباب الذين يمثلون الجيل الثاني للنهضة الساعية في التحوّل إلى حزب حكم برغماتي يجمع بين المحافظة على المرجعية التاريخية وقدرة التأقلم مع مقتضيات مجتمع يتغيّر باستمرار. هل فهم زياد العذاري أن الخطاب الثوري هو العائق الخطير أمام استقرار وازدهار المجتمع التونسي المنشود؟ سؤال خطير. لكن الأكيد أن هذا الانسحاب يؤكد أن مسؤولية الرئيس راشد الغنوشي في إدارة عملية تحول وانتقال حركته ما تزال شاقة ومستمرة. ولم تكتمل. حوماني إيقاف ومحاكمة كلاي بي بي دجي هو انتصار. بل هو انتصار مزدوج للمرأة التونسية التي تكسب كل يوم معركة في حربها ضد العنف واللامساواة وضد الرداءة وسقوط الذوق. لنترك الشأن للقضاء. إنما ما بدا لي غير مفهوم هو الموقف الذي اتخذه الفنان لطفي العبدلي وعبّر عنه في فيديو يفيض شراسة وتخويفا ضدّ بية الزردي صاحبة الشكاية ضد مغنّي الراب. حيث طلب منها سحب شكايتها وإلا فإنه لن يتوانى عن مواجهتها مستقبلا. لطفي العبدلي فنان موهوب ما في ذلك شكو ذكي، جريء، حاضر البديهة وقوي الحجة مما يجعله يحتضن القضايا ويتخذ المواقف ضمن ما يعتبره حقا مشاعا لكل فنان تهمّه هموم مجتمعه. لكن لطفي أخطأ هذه المرة حين أراد الدفاع عن كلاي بي.بي.دجي وعرّض مسيرته للخطر. ليس فقط لأنه يبدي تعاطفه مع من هو متهم بارتكاب جريمة عنف ضد امرأة وحسب. بل لأنه يبني هذا التعاطف وهذا الدعم على أساس الانتماء لنفس.. الحومة. نورمال لطفي؟ الترجي يا دولة.. الفرح أجمل نهاية لأسبوع من الانتظار المقلق مرّ متباطئا: انتصار الترجي ضد الرجاء البيضاوي في الدار البيضاء دليل على أن شبابنا قادر على تحقيق المعجزات وعلى صنع الفرحة. وكم نحن في حاجة إلى الفرحة! وتحية إكبار بالمناسبة للجماهير البيضاوية التي قبلت بالهزيمة وصفقت للفائز. وكم نحن في حاجة الى تعلم ذلك!