تشهد بلادنا منذ شهور هجمة حقيقية لمن ينعتون بأنهم «دعاة»..وكثر الجدل واللغط خاصة وقد أثار كثيرون منهم فتنة حقيقية وجاؤوا بما لم نعهده من «فتاوى» وتبشير.. واستقبلوا من مضيفيهم استقبال الأبطال الفاتحين فيما ذهب كثيرون الى البحث عن سر وتبرير لهذا الزيارات.. فمن قائل إنهم جاؤوا بمال/وأحد الدعاة مدان بذلك في دول أخرى/ ومنهم من رآها تلهية للناس عن مشاكل تتفاقم الخ.. ولفهم الصورة يبدو ضروريا أن نتمعن في بعض الحقائق الثابتة.. أولاها أن الأحزاب الإسلامية التي استلمت السلطة في مصر وتونس والمغرب وتتقاتل عليها في ليبيا ذات جذور واحدة أو متشابهة مهما اختلفت المسميات و«الاجتهادات» الفقهية ومن الغباء التسليم بفوارق بينهم إلا في استراتيجيات التنفيذ لبلوغ الهدف وهو إحياء الخلافة الإسلامية.. والمحور الأساس في مرجعياتهم أن العالم الإسلامي يعيش الآن وضع الجاهلية الأولى ولا بد من تقويضه بفتح إسلامي جديد.. يقول سيد قطب في هذا السياق «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم .. ونحن ندعوا إلى استئناف حياة إسلامية في مجتمع إسلامي تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي.. ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض، وأن وجود الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك.».. وهم يشملون بوصف الجاهلية حتى الأئمة والمساجد والثقافة الإسلامية القائمة.. وإذا كان كثيرون من أهلنا يرموننا بالكفر فكيف نلوم من جاؤوا به «لنشرالاسلام» ؟
ثاني الحقائق ان بلادنا بعد الاستقلال شهدت تقليصا قاتلا لدور الزيتونة في المجتمع والثقافة والسياسة حيث كان بورقيبة يطمح الى النهج على منوال أتاتورك في اقامة الدولة « الحديثة».. زاد عليها بن علي بنشر الفساد والإفساد على كل الأصعدة.. وهذا الأمر ولد ردود فعل فطرية والتجأ أهلنا الى القنوات وغيرها بعدماحرمهم النظام من الجوامع وتم شحن النفوس بما لم نعهد..ولا شك ان شعبنا في معظمه ظل متمسكا بدينه الحنيف لكن من دون فكر تنويري يسنده ويغذيه وينبع من موروثنا الزيتوني السمح.. ولولا تجذر الاسلام فينا ما وصل الإسلاميون إلى السلطة أبدا.
الحقيقة الثالثة هو خلوّ الساحة لهذه الأحزاب فكريا واستخدامها لمواقعها لاستقدام نظراء لهم من كل حدب وصوب.. ولا من متصدي بالفكر والحجة.. وشتان بين الأمس واليوم.. فعندما وردت رسالة ابن سعود التي كتبها محمد بن عبد الوهاب كان رد الزيتونة في مستوى التحدي الفكري والعملي.. فقد ختم ابن عبد الوهاب رسالته بقوله: «فمن لم يُجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان».. فكان رد الزيتونة حاسما قويا «إن أطلت في لُجّة الغواية سبْحَكَ، وشيدت في الفتنة صرحك، واختلتَ عارضًا رُمحك، فإن بني عمك فيهم رماح، وما منهم إلا من يتقلد الصفاح، ويجيل في الحرب فائز القِداح».
تبقى الحقيقة المؤلمة وهي تشتتنا من حيث نعتقد الاجتهاد.. وان نلجأ إلى «دعاة» من خارج أرضنا وننسى أن الزيتونة كان أول جامعة إسلامية.. ولمن جاءنا متطاولا نافخا أوداجه نقول إذا كان عمر دُولِكم نفسها لا يزيد عن نصف قرن فالإسلام في أرضنا عمره أكثر من 13 قرنا.. ومن المخجل أن نجد بيننا من يلجأ إليكم ، ومن نَكَد الدنيا أن يسْخرَ الحافي بمن لبس نعل العلم وشيّد صروحه عبر التاريخ.