أبلغني قريب حبيب أسفه لتصرّف أخ صديق حبيب!... ويأتي تصرّف الصديق غير المنتظر ردّا على تصرّف القريب غير المقبول في دنيا النّاس!... وملخّص الأمر أنّ القريب قد التقى الصديق بغية مساعدته في التخفيف من الحواجز التي تعترض سبيله مانعة إيّاه مواصلة تعليمه الجامعي المتعثّر بسبب النُّقل التي فرضها الوضع الجديد بالبلاد زمن ما بعد الثورة!... ويبدو أنّ القريب وفي غفلة من فقه الواقع ربّت "ساهيا" متودّدا على كتف الصديق، ممّا أثار حفيظة الصديق واضطرّه إلى تذكيره بمقامه (احترام المقامات)!!!... ما حفر جرحا غائرا في نفس القريب الذي أصيب بخيبة أمل كبيرة في الصديق العزيز!... ومنه وعليه أقول، وبالله التوفيق: كان ولازال وسوف يستمرّ الفرق بين الفضاء العامّ والفضاءات المغلقة الخاصّة!... ففي الفضاء العامّ يوجد المتعلّم والجاهل والطيّب والشرّير والمنفتح والمعقّد وعاذر النّاس وعاذلهم والمتفهّم والمتصيّد للزلّات واللقطات والعفويّ والمتعمّد ومحبّ الخير وكارهه ومشيع الألفة وحاطمها. ومن هنا كان على النّاس مراعاة كلّ ذلك في تصرّفاتهم، فلعلّ تربيتة ودّ فُهِمت استنقاصا أو رُئي به المربّت عليه مجرّد أداة طيّعة في يد المربِّت. وفي تاريخنا التونسي الحديث لم يكن لتربيتة بورقيبة على الخدّ (يستعملها مع النّساء والرّجال على حدّ السواء) إلّا إشارة استنقاص منه يضع بها النّاس في منازل واطية حذو قدميه "الكريمتين" اللتين مشى بهما على جماجم أبنائه الأعزّاء وبناته الفضليات من المواطنين والمواطنات!... فلعلّ راءٍ مغرضٍ لتربيتة قريبي تجعله يحكم بها على صاحبي أنّه مجرّد أداة طيّعة في أيادي أمثال قريبي ممّن علّمهم دينهم النّظر بعفويّة إلى مثل هذه الحركات ولم تعلّمه الدّنيا أنّ ما كان عنده عفويّا يوشك أن يكون في نظر آخرين خطرا يهدّد أمن الدولة التي حاربته تاريخيّا وأمثاله!... الحقيقة أنّي لو كنت مكان قريبي ما قمت بهذه التربيتة، هناك في الفضاء العامّ، ولو كان المربّت عليه أحد تلامذتي السابقين كي لا أعطي الفرصة للمرابطين في المستنقعات، ولو كنت مكان صديقي وصاحبي لما تحرّجت كثيرا لهذه التربيتة ولما أوليتها ما به أؤذي الآخرين إلّا ما قد يكون من همسات خفيفة وإشارات بارعة تلزم الفاعل في المستقبل عدم العود، مراعاة كذلك للمرابطين في المستنقعات!... والحقيقة أيضا أنّ هذه الحادثة تلفت الانتباه إلى آثار العارض الزائل في القديم الرّاكز، أعني تأثير المركز والوظيفة في القيمة الذاتيّة للفرد. فما كان ينبغي أن يتأثّر من ندر معدنه وارتفع مقدار قدره كأخي وصاحبي أن يولي حديث النّاس أو أقاويلهم اعتبارا. فإنّ من تواضع للنّاس رفعه الله، وقد كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينزع يده من يد الذي صافحه حتّى يكون المصافح هو أوّل من ينزع يده!... ومن سعى في خدمة النّاس جنى الخير الكثير الذي سوف يكون له حصنا حصينا ضدّ قيل وقال وضدّ إفك الأفّاكين. وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائما وحين قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة!... ولقد نظرت في شأن غير الإسلاميين أو غير المسلمين فوجدّتهم يتواضعون لبعضهم البعض ويتودّدون بشكل قد يلبّس على المؤمنين لولا قول الله تعالى "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى"، فلماذا يستكثر البعض منّا تودّد إخوانه ولا يقبل منهم ما "يهين" منصبه الوقتي الزّائل!... أخيرا، لا بدّ أن أوصي النّاس جميعا بالانتباه إلى مفعول الكرسي في تحطيم قيمهم الذاتيّة وجوهرهم، فإنّ عدم الانتباه قد يُسلمهم بعد المسؤوليّة إلى دنيا يجنون فيها اللاقيمة وغيابَ حبٍّ كانوا حازوه قبل أن تُفتح الدّنيا عليهم!... وإذا كان بنصيحتي جفاء أو جفوة، فاسمعوا إلى الحبيب صلّى عليه وسلّم يقول: "ما الفقر أخشى عليكم ولكنّي أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"!... والله من وراء القصد وهو الهادي إلى الصراط المستقيم... الدّانمارك في 23 سبتمبر 2013