معلوم عند الرّجال؛ شهامة أهل الجنوب وحسن بديهتهم ورفعة همّتهم وجودة كرمهم وصفاء أجوائهم ويُسر معاشرتهم وأمان صحبتهم... ومعلوم أنّ النّظام التونسي المنحرف عن الخُلُق التونسي – زمن فرحة الحياة التي قتلت في تونس الحياة – قد حاول دون تراخٍ إلحاق الجنوب بالشمال، فأعمل فيه معاوله "الإبداعيّة" الهادمة حتّى استصدروا من معاهد الجنوب أشرطة بورنوغرافية؛ سوف تحتفظ بها الذّاكرة الرّساليّة حجرًا شديد الحرارة يُلقم في أفواه "المبدعين" الساقطين الذين أرادوا الخبث لبلادنا ذاتِ الفضائل... ويوم كان للرّجال هامشُ عملٍ، كان من بين التونسيين الغيورين على بلادهم مَن عمل بجدّ على تأمين البلاد، وقد رأوا أنّ تأمينها لم يكن ولن يكون إلّا بتعرّف النّاس بعضهم على بعض وبعدم التوافق على الشرّ وبعدم الخيانة بكلّ أنواعها (خيانة المؤتمن وخيانة المجالس وخيانة الصحبة وخيانة الجوار وخيانة الأعراض والأعراف والعادات والدّين) وبتثبيت النّاس في أرضهم. وعلموا أنّ التثبيت على الأرض وفيها لن يحصل إلّا بالحبّ الدفّاق لها وتيقّنوا أنّ حبّها لا يحرّض عليه إلّا انتفاعهم بها ومنها... ويوم كان أحد العاملين بالصحراء (محمّد بن حامد المرزوقي) مسموع الرّأي لم يقصّر في السعى إلى توطين النّاس بالأرض هناك في أقاصي الأرض ببرج بورقيبة، آخر نقطة في الحدود الثلاثيّة التونسيّة الليبية الجزائريّة، جاء بهم من بلدته دوز وما جاورها؛ ثمّ دأب وإخوانُه المرابطون بالصحراء، بحكمة قائد الصحراء يومئذ (العقيد بن كريّم)، بتسيير دوريات متواصلة جعلت المغامر الذي يفكّر في تجاوز الحدود يراجع نتائج ذلك مرّات ومرّات!... كان ذلك كذلك دون أن يكون هناك حاجزٌ ترابيّ تشيد به الآلة الإعلاميّة أو تفضح بجهل وغباء استثنائيّ خواءه (*) ودون أن تشهد التلفزة بطولات "المتخصّصين" في الحركات الإسلاميّة؛ أولئك الحاقدين على الإسلام؛ والمحلّلين والنّقابيين "الغيورين" على جيش وأمن أظهروهما - كذبا - فقيرين عديمي التدريب فاقدي التجهيز بشكل يطمّع فيهما كلّ متهوّر!... كنت لمّا اخترت العمل في الجنوب قد أسررت المدّة، سنة أو سنتين على الأكثر، فلم أزل به عاملا حتّى فرط منّي خمس سنوات كاملة دون تفطّن لمرورها... وكان من بين ملاحظاتي ما قام به الجزائريون على حدودهم الشرقية معنا؛ هناك في منطقة المطروحة ورجيم معتوق والقطاع الجنوبيّ لهما من توطين الأهالي فيها... وقد كان ينبغي على التونسيين إعمار أرضهم، وأنّ ذلك لا يكون – كما أسلفت – إلّا بإشعارهم بمردود أرضهم... ولكنّ الوصاية الشماليّة والإقطاعيّة استمرّت ضاغطة... واستمرّت الحال دافعة إلى هجر الأرض والالتحاق بالمدن الكبرى في الوسط والشمال... وتحوّلت العلاقة مع الأرض سياحةً مفسدةً لا تأخذ بأخلاق الجهة ولا بثقافتها أو استثمارا لخيراتها مهلكا لا يعود على أهلها بما يرغّب فيها أهلَها... ولولا بقيّة غيرة على الأصول وعلى البلاد لكانت الدّماء التي سالت أخيرا في بن قردان أكثر غزارة ولبدت الجريمة المخطّطة لها أكثر بشاعة... على المتغنّين اليوم ببطولات البنقردانيين أن ينصفوهم ويمكّنوهم من حقوقهم ومن قيمهم بدل أن يظلّوا عندهم مجرّد ورقة يتقاذفها "الوطنيون" تمريرا لأجنداتهم... لا بدّ أن يتمكّن البنقردانيون من ذلك؛ كما لا بدّ أن يتمكّن غيرهم من أبناء الجنوب والغرب من مثل ذلك!... ولو أخلص النّاس لبلدهم ودافعوا عنه لمكّنوا البلاد مثلا من مشروع الطاقة النّظيفة المجانيّ القادم من النرويج والذي استقرّ أخيرا في المغرب نتيجة تعقيدات الاستثمار في تونس وغباء بعض الماسكين به، ولكان لجحافل المستثمرين زمن الترويكا آثارها الواضحة في إنعاش الاقتصاد... ولو حارب النّاس الإرهاب بإخلاص وحبّ للبلاد لمنعوا أسبابه المتمثّلة أساسا في الحُقرة وفي محاربة التديّن وفي إشاعة الفاحشة بالبلاد؛ بما أَطلق عنان الأباطيل؛ تحكي انتشاء الفساد والجريمة زمن الترويكا والنّهضة... تُبطِن أنّ الخير كان ولازال في صاحب التغيير وفي سلفه الذي خلّفه أساسا لقتل التديّن... أتساءل - وأنا أتنقّل بين القنوات التونسيّة الماجنة وأراقب بحزن عميق فعل رأس المال في الكلمة الشريفة؛ يقتلها في قناة المتوسّط ويتربّص بها الآن في (ال: تي آن آن) التونسيّة؛ ليُصمِت بعض همسات الفضيلة التي كانتا تسترقانها –، أتساءل لِمَ يتواصل القتل في أبنائنا من الجيش والأمن وأهلنا في الجنوب أو في الأماكن المفقّرة، والنّاس يمرحون ويُفسدون ثمّ يدلّسون على ذلك بموائد مستديرة لم تسمع قط عن الحياء فتتّعظ به ومنه!... لِمَ يستمرّ "المبدعون" يكشفون عورات نسائنا ويهدرون ماء حيائهنّ ويُنشِّئون رذيلةً بشعةً في مجتمعنا المسلم المحافظ!... متى نراهم – كما هم – قاتلي مروءة، صانعي إرهاب متمعّشين منه، محاربي فضيلة، ماسخي مجتمعٍ تَعارفَ أهلُه وتحابّوا وتناصروا وتوحّدوا عبر الأزمان والحقب، فنلزمهم قاماتهم الواطية ونمنعهم الإفساد في أرضنا!... علينا إعلان الحرب - كما يطالب بذلك الآن المتيقّنون من عدم المشاركة فيها – ولكن علينا قبل ذلك معرفة العدوّ الذي سوف تُقام الحرب ضدّه، بدل أن نظلّ لاهثين دون جدوى وراء عناصر تحويل الوجهة وجلب الانتباه بعدف التعمية!... والله من وراء القصد -------------------------- (*): تقف السلطات المعنيّة تتكلّم عن أهميّة الحاجز الدّفاعي، وعن قدرته - المرقّاة بالحضور الأمريكي والألماني - في صدّ "الدواعش"، ثمّ تأتي الصحافة بمحلّليها ليؤكّدوا تسلّل الإرهابيين من ليبيا!... فأين العقل ولِمَ لا يقتصد هؤلاء في تسفيه السلطات المعنيّة!... أمازال من يثق بعد قولهم في الحاجز!...