لئن عُرّف الدّهليز في اللغة بأنّه السرداب أو الخندق أو المسلك الطويل الضيّق، فإنّه في مبنى الدّاخليّة الحجرات الواقعة تحت أرضه حيث يُستقبل "الضيوف" وينزلون!... ولئن ارتبط ذكره بالسوء حتّى عُدّ اللقطاء أبناء الدّهاليز، فإنّ الدّهاليز في هذا المبنى قد آوت وجه المجتمع التونسي وصالحيه ومصلحيه الممنوعين من إصلاحه، في حين أنزِل أبناء الدّهاليز في باقي طوابقه!... لم يكن بروتوكول الضيافة يومها متطوّرا كما سمعنا عنه زمن التسعينات!... فقد كان الترحيب نسبيّا باهتا واكتفى بتحويل الضيف إلى شيء طيّع يُستعمل حسب رغبة المُضيِّف... تمّ التوزيع على الحجرات!... وجوه أعرفها وأخرى ألاقيها لأوّل مرّة تبدو كما لو كنت أعرفها!... مندسّ في هذه الغرفة أو في تلك، منضبط لدوره غير متقن له... حلقات تعارف وتعرّف!... عمليّات إزالة الألقاب تدريجيّا وبأدب جمّ وبحبّ المؤمنين!... فلم يعد المكان صالحا لذكر صفة الرّائد والنّقيب أو الوكيل والعريف، فالكلّ سواء!... ولكنّ المكان لن يمحوَ خُلقًا رفيعا ولن ينسي الفضل بين النّاس!... ولم يمنع النّاس من سكب دموع على النّاس، وهم يعيشون ذات الظروف التي يعيشها النّاس!... كان أكثر ما يهمّنا مصائر أهالينا!... وكانت النّقاشات تتّجه إلى الإحسان إلى زوجاتنا... بتسريح زوجاتنا... فنحن مشاريع مشانق لا تفكّر أبدا بأولادنا ولا بزوجاتنا ولا بالوطن وأهله!... كان بيننا أهل نكتةٍ خفيفة، سخّرهم الله تعالى لإجلاء القتامة عنّا!... وكان أكثر ما يقلق أبناء الدّهاليز ارتفاع ضحكاتنا وقهقهاتنا!... بل لقد كانت ضحكاتنا فرصة لفتح الأبواب الموصدة المغلّقة علينا!... يستجلون: أتضحكون وأنتم في هذه الأوضاع!... كان يرهقكم كثيرا صدى ضحكاتنا!... ولو عرفوا يومها ما يقول الحبيب الغودي لوجدوا العذر لنا ولضحكاتنا!... لم تكن الأبواب تُفتح لاستجلاء سبب الضحك فقط، بل كانت تفتح كذلك لانتقاء من قُدّر له أن يكون - حسب الدّور - محلّ إفراغ غيظ قلوب، هالها هذا الضحك، وساءها من قبل قِيمنا!... ولله درّ أخي هذا، فقد صُعد به ثمّ بعد زمن طويل أُرجِع!... سلّم رددنا السلام!... سألنا تساءلنا... [خيرا وسلاما] أجاب!... لله درّه يستُر عنّا جسدا رأى من العذاب ألوانا... يبعث فينا همّة تنعقد بتقليده وصموده!... فليست الضحكات وحدها سياطنا على أدبارهم، بل الصمود سيوف غير مشحوذة في نحورهم!... تعذيب وحشيّ أليم نال الكثير من أهلنا!... خلّف الكثير من السقوط والعاهات!... وانظروا إن شئتم إلى خالد خليفة أو إلى علي الحيدري أو غيرهما من الضحايا المتنقّلة في أرض أباد فيها المجرمون الإحساس بالآخر!... تعذيب ساديّ وحشي ذهب بروح طيّبة ونفس زكيّة ورجل من رجالات تونس المخلصين!... ثمّ ما لبث التعذيب أن تراجع نوعا ما، استجابة لاستشهاد سيّدي محمّد المنصوري (العطواني) الذي صعد إلى ربّه يوم 01 ديسمبر 1987!... نحن لم نُخلق لنعذّب وإنّما لنُمتَحن!... نحن لم نُخلق لنُحبس وإنّما لنضرب في الأرض ونُنتج ونُفلح ونُصلح ونُربّي ونشيّد الصروح ونرفع الهامات ونطيل القامات!... ولذلك فقد كان الحبس وحده تعذيبا!... وكان الاستنطاق من طرف أولئك وبتلك الوسائل غير اللائقة تعذيبا وتعذيبا!... ويوم فُتح الباب ونودي بي، رجوت أن يثبّتني الله تعالى ويقوّيني!... غير أنّ المناداةَ كانت لنقلة تفرضها ظروف المضيِّفين، علينا احترامها نحن الضيوف!... ... يتبع بإذن الله تعالى... عبدالحميد العدّاسي، 23 نوفمبر 2017