مئات الآلاف من الأساتذة خريجي الجامعات التونسية ينتظرون كل موعد تعلنه الدولة لمناظرة "الكاباس" حتى يشاركوا في الاختبار والأمل يحدوهم في تجاوز العقبة الحائلة بينهم وبين الحصول على عمل في مجالهم وتخصصهم الذي أفنوا شبابهم في تحصيله. و"الكاباس" لمن لا يعرفه هو مناظرة تؤهل خريجي الجامعة التونسة للحصول على عمل برتبة أستاذ في المعاهد النظامية التونسية، وقد تم ابتكار هذه المناظرة بعد عجز الدولة التونسية عن استيعاب كل خريجي الجامعة والتوفيق بين التعليم وسوق الشغل. ورغم أن كثيرا من أهل الاختصاص نبّهوا منذ سنين عديدة إلى فشل هذه السياسة بسبب اتساع الهوة بين خريجي المؤسسات التعليمية وسوق الشغل، إلا أننا لم نر خطوات إصلاحية جريئة للتوفيق قدر المستطاع بين امكانيات البلاد وحاجتها من جهة والحاجة للعمل من جهة أخرى. ومع أن العمل حق دستوري، فإن البطالة قد أصبحت مشكلا وطنيا وعالميا يغير الحكومات ويعصف بالأنظمة ويطيح بالمستبدين. ومن مظاهر فشل السياسة التعليمية والإقتصادية أن تونس بها مئات الآلاف من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل ولكنها في الآن ذاته محتاجة إلى كثير من اليد العاملة في الحرف والمهن الصغرى والفلاحة. فالفلاح التونسي مثلا لا يجد يدا عاملة تجني زيتونه أو لوزه أو تخدم أرضه إلا بعسر شديد هذا فضلا عن أعمال البناء وغير ذلك مما شابه. ولو لا المرأة التونسية المجاهدة والمناضلة من أجل الرزق وتوفير الحد الأدنى لنفسها وأهلها لرأينا كارثة حقيقية في المجالات المذكورة آنفا. ففي الوقت الذي تعج فيه المقاهي بالخريجين والعاطلين عن العمل تكافح الأمهات والأخوات والزوجات في كل ميادين العمل الشريف من أجل لقمة العيش! تلك المرأة التي لا تشبه "النّسَويات" و"الفيمن" المتاجرات بقضايا المرأة اللّواتي جعلن قضاياهن الرئيسية في ضمان حقّ المرأة في الإنجاب خارج مؤسسة الزواج، ومساواتها في الإرث مع شقيقها، وحقها في الزواج من غير المسلم، وحقها في أن لا يكون معها زوجة أخرى، وحقها في أن تكون خليلة وأن تعاشر خارج مؤسسة الزواج! ... وهي قضايا لا تعرفها المرأة التونسية المجاهدة في الحقول والمصانع! كم هو مخجل ومحزن في الآن ذاته أن ترى امرأة تعمل في كنس الشوارع وتقول بأنها تعول عائلة كبيرة منها أربعة شباب متخرجين من الجامعة وعاطلين عن العمل وهي التي تعولهم بالمكنسة وتدفع لهم ثمن القهوة والدخان!! وبالعود إلى موضوعنا فإن وجود مناظرة "الكاباس" أو أي مناظرة لها نفس المقصد وإن اختلفت في الإسم، مفهوم من حيث المبدأ ويُحقّق هدفين أولهما مراعاة امكانيات الدولة في استيعاب الخريجن، وثانيا اختيار الأكفأ في التوظيف خاصة وأن الذين سيتم توظيفهم سيؤتمنون على أبناء التونسيين تربية وتعليما وتكوينا! ولكن هذه المناظرة اعتمدت قبل الثورة لغربلة الخصوم واختيار الموالين وتخللها الفساد والرشاوى والتلاعب بمصداقيتها والسمسرة والإحتيال على المُمتحنين، ولكن من تمكن من النجاح بجهده أو عبر الوسائط المذكورة فإن حصوله على عمل في تخصصه يصبح أمرا أكيدا وحقا لا جدال فيه. ومنذ ذلك الحين أصبح التوظيف بعد النجاح في المناظرة من باب المعروف عرفا الذي هو كالمشروط شرطا والبداهة التي لا يقابلها احتمال آخر! لكن المعروف عرفا لم يبق كالمشروط شرطا ولم يعد ملزما وسقطت البداهة في الماء وحضرت احتمالات أخرى لم تكن في الحسبان، حيث أنه في الدورة الأخيرة التي تمت صائفة 2017 وشارك فيها 114 ألف أستاذا، نجح منهم 2356 انقلبت الدولة بمؤسساتها ووزاراتها على حقهم في الوظيفة وأصبح نجاحهم كأن لم يكن تقريبا! وبذلك يصح القول بأن 2356 أستاذا نجحوا في المناظرة ولكن الدولة رسبت في المصداقية وشرّعت لعدم الثقة مستقبلا في الامتحانات والمناظرات وحفرت هوة بينها وبين خريجي الجامعات التونسية سائقة تعلّات واهية لا تصمد أمام الحجة والمنطق السليم، مستخفة بمعاناة الناجحين ومن ينتظر دوره في النجاح في مناظرة قادمة، ومستخفة كذلك بمن خلفهم من عائلات! فبعد أن عبّر الناجحون عن فرحهم وتبادلوا التهاني وأقاموا الولائم، وأهدى بعضهم نجاحه لولده الذي وافاه الأجل قبل أن يحضر فرحة ابنه صُدموا بقرارات جائرة أوقفتهم على حقيقة السراب! بيّن نكوص الدولة عن وعودها في توظيف الناجحين تخبط، وربّما صراع إرادات داخل مؤسسات الدولة لا علاقة له بمصلحة التلاميذ، لأن الشغور في قطاع معلمي الإبتدائي والثانوي قد بلغ حوالي 15 ألفا باعتراف الوزارة دون أن تخبرنا كيف ستسدد الشغور وتوفر المدرسين للتلاميذ، والحال أنه لا يوجد العدد المطلوب ولا أقل منه من الحاصلين على الماجستير التربوي الذي تتعلل به الوزارة وتريد أن يحصل عليه الناجحون في هذه المناظرة الأخيرة قبل توظيفهم! قرار إلزام الناجحين بالعودة إلى الدراسة من أجل الحصول على ماجستير تربوي قبل توظيفهم قرار جائر لم تراع فيه الدولة أعمار الناجحين، فهم ليسوا حديثي عهد بمقاعد الدراسة وبعضهم قد تخرّج منذ عقد أو عقدين وقد جاوزت أعمار بعضهم الأربعين وقاربت الخمسين، ولم تراع الدولة حالاتهم الإجتماعية، فبعضهن نساء أمهات وحوامل ولا يسعهن الانتقال من مقراتهن الحالية إلى الجامعات البعيدة، وسيصبح الأمر بالنسبة لكثير من الناجين تفريق بين المرء وأهله. كما أن بعض الناجحين قد فرطوا في أعمال كانوا يشغلونها بصفة مؤقتة فازدادوا تعاسة على تعاسة وضيقا على ضيق! وعليه فإن الدولة مطالبة بتحمل مسؤوليتها مع هذه الدفعة من الناجحين ولا تصلح أخطاء سياساتها السابقة بأخطاء لاحقة على حساب "شباب" اشتعل رأسه شيبا وأشرف على سنّ "اليأس" ويزداد الآن يأسا وإحباطا بعد أن لاح له أمل في نهاية النفق ثم انطفأ! مستوى التعليم تدنّى وأصبح كارثيا وهذا لا يحتاج إلى أهل خبرة واختصاص لإدراكه أو الوقوف عليه، ولكن ذلك لم يسببه الناجحون أخيرا في المناظرة وليسوا جزءا من المشكل ولا يمكن أن يكون الحلّ على حسابهم وحدهم! وإنما الحلّ في تغيير السياسات والبرامج ومقاومة الابتذال والتقاعس والتقصير في القيام بالواجب والإحاطة بالتلاميذ ورعايتهم وعدم تزهيدهم في التعليم ومنظومته! وما لا يّدرك بماجستير تربوي يمكن أن يدرك بعضه أو جله بدورات تكوينية وبرعاية الأساتذة الجدد والإحاطة بهم وتوجيههم وتحفيزهم على التفوق في أدائهم، وهي برامج موجودة في الأصل في وزارة التربية، فقط وجب تفعيلها والزيادة في صرامتها ونجاعتها! أبناء تونس سواء كانوا في قطاع التلاميذ أو في قطاع الخريجين هم أمانة ورأس مال حقيقي وجب الحفاظ عليه وتنميته بدل اهمالهم صغارا وتدميرهم كبارا!
ويمكن للدولة في المستقبل أن تجعل شرط الحصول على وظيفة مدّرس حيازة ماجستير تربوي يلتحق به الطلبة الخريجون حديثا من الجامعة عبر مناظرة يشاركون فيها مباشرة بعد التخرج، وليس بعد عقد أو يزيد من السنوات. كما أن كثيرا من الأساتذة الناجحين في هذه الدورة قد مارسوا مهنة التعليم وليسوا غرباء عنها، فمنهم من مارسها في المدارس الحكومية في شكل أستاذ معوض أو في المعاهد الخاصة أو في شكل تقديم دروس التدارك! وقد ثبت أيضا أن بعض هؤلاء الأساتذة منهم من هو حاصل على الماجستير ومنهم من هو حاصل على الدكتوراه في مجال اختصاصه، وإن الذين يتخذون القرارات المدمرة في حقهم ليسوا أكفأ منهم أكاديميا على الأقل! كما أنه من العار في حق دولة ما بعد "الثورة" أن تصادر حق الناجحين في الإحتجاج والتعبير عن خيبة أملهم، وأن تستهدفهم بالغازات الخانقة والعصي والكلاب كأن ثورة لم تكن وكأن دستورا لم يُحبّر بدماء شهداء الحرية والكرامة وكأنه لم يقرّ حقّ التظاهر السلمي! على العقلاء في مواقع القرار أن يتداركوا الموقف قبل فوات الأوان وأن يتحلّوا ببعض الحكمة ليحولوا دون ردّات الفعل اليائسة التي أصبحت متوقعة ونسمعها أو نقرأها لضحايا القرار الجائر خاصة ونحن في شهر الثورة وفيه تأتي ذكرى السابع عشر وصاحب "البرويطة" الذي تفحّم في لحظة غضب، وقد أصبحت فعلته "سنة غير حميدة" لكل الغاضبين! وهو مصير نتمنى أن لا يصير إليه أحد! وإن لم يتمّ ذلك فإن "رسوب الدولة" سيتحوّل إلى "جريمة دولة" مع سابقية إضمار وترصّد،لا قدّر الله! ألا قد بلّغت اللهم فاشهد ولا "ناقة لي في الأمر ولا جمل! طه البعزاوي 1 ديسمبر 2017