ثمّ جاء الدّور عليّ!... نودي بي!... حُظيت بصحبةٍ كتلك التي كانت في السيّارة المقلّة لي من العوينة إلى مبنى الدّاخليّة!... كنت أشمّ رائحة الانحدار وأنا أصعد السلّم، باتّجاه مكتب الباحث!... حتّى إذا بلغت الباب أو قريبا منه واجهني الانحدار في أوضح تجلّياته!... لمّا سمعت عمّا نال النّاس في التسعينات، شعرت بالحرج إذ أروي ما تعرّضنا إليه يومئذ!... وقد كان التخفيف عنّا وقتها محكوما بعوامل، لعلّ منها كما أسلفت استشهاد سيّدنا الرّائد المنصوري!... وإلّا فما نال بعض إخوتي كلطفي السنوسي وعلي الحيدري وخالد خليفة وعبدالله غريس ومحمد وأحمد وعبدالله وغيرهم من الأفذاذ، كبير لا يتحمّل القلم أمانة تصويره وتبليغه للنّاس!... فاجأني هذا الحيوان غير المروّض بلكمة أفقدتني توازني!... أغراه بي جسمي النّحيف يومئذ والحصانة التي توفّرها له الدهاليز المغلقة وتَرداد الصدى المستمرّ بين التونسيين المسالمين [لا ظلم بعد اليوم]!... كان ذلك ترحيبا منه لم يبلغ مستوى الحفاوة التي برع فيها أصحاب الألسنة النتنة!... تلك الألسنة التي أسمعتني من مخزون المجاري ما لا تقدر المجاري الرّاكدة على فرزه!... ألفاظ تناولت أحبّ أحبّتي: ربّي وأمّي وقِيَمي ومؤسّستي ونفسي!... والمؤسّسة غير مرحّب بها عند مؤسّسة أبناء الدّهاليز... ولذلك فوجود عناصر منها بين أيديهم يغري كثيرا باستعمال كلّ ما هو بأيديهم!...
دخل الباحث، لينهي هذه اللوحة التي رآها لا تليق بي!... دلّني بكرم جمّ على ما يليق بي!... طاولة وكرسي وأوراق بيضاء وقلم وهدوء مقابر!... وجملة مؤدّبة: "سي عبدالحميد نحبّك كالسبّالة... وما تخلّنيش نعطيك لغيري... هاك شفت المستوى"!... يقول لمن لا يفقه التونسيّة [أريدك سيّد عبدالحميد أن تكون متعاونا، فتعطي كلّ ما عندك منسابا كانسياب الماء من الحنفيّة، ولا تلجئني إلى التعامل معك باستعمال هؤلاء!... فمستواهم غير لائق كما رأيت]!... استعنت بوصيّة أخي الذي كان قد أسّس لبحثي كما أسلفت!... كتبت ومطّطت وولّدت الكلام وزوّقت وأحسنت الإنشاء!... دخل مسلّما هاشّا باشّا!... قرأ الأوراق!... تغيّر وجهه... مزّقها كلّها جميعا!... كان ابن حلال!... تكرّم عليّ بفرصة أخرى، دون أن ينبّهني إلى ضرورة الأخذ بالجدّية!... أحسست بالحرج كيف خذلته!... لا بارك الله فيهم جميعا ولا في مَن أجلسهم على جماجم التونسيين!...
ليس البحث إنشاء وتعبيرا ومصطلحاتٍ... وليس البحث رواية أحداث ذات صلة بالملفّ والأحداث!... البحث توقيع على اجتهادات الباحث!... فهو من تلقّى التعليمات الواضحة الخادمة للوطن ولأمنه!... والبحث فنّ استعمال "الممكن"!... وما أنا وأصحابي إلّا جزء من ذلك الممكن!... ومن هنا فالحديث عن تخطيط قامت به مجموعة وطنيّة من أبناء تونس من الجيش والأمن والجمارك والمدنيين، لمقاومة ظلم استشرى ووصل بالبلاد إلى فوّهة البركان، لا ينفع البلاد ولا يخدم "أمن الدّولة" ولا حتّى الدّولة!... فللبلاد أبناؤها ممّن هبّ لنصرتها وتولّى أمرها يوم السابع من نوفمبر، واحتفل بإنجازه في موكب بهيج تحت القبّة بمجلس الأمّة بباردو، قال فيه القائد الأممي معمّر القذّافي تحت عاصفة تصفيق الأيادي التونسية الصمّاء، أنّه لا يوجد في تونس رجل إلّاه!... وإذن، فلم يعد معقولا بعد شهادة العقيد، أن نكون نحن أيضا رجالا قد فكّرنا في التغيير يوم الأحد الثامن من نوفمبر 1987!... فلمّا حدث ما حدث يوم السبت 7 نوفمبر، وصدّقنا بطيبتنا وعدم خبرتنا وعدم رغبتنا فيما قام به غيرنا، ما تناقلت وسائل الإعلام مستبشرة [لا ظلم بعد اليوم]، قرّرنا طوع أمرنا وبملء إرادتنا إبطال عملنا!... ليس للباحث أن يرى السابع من نوفمبر - كما رأيناه - ابن الثامن منه!... وطبيعي أن يرى الثامن من نوفمبر رفضا للسّابع منه وقياما عليه!... كان الباحث لا يتوقّف كثيرا عند تهم جُمّعت ضامنة للإعدامات والتأبيدات!... تهم التخطيط لقلب نظام الحكم وتجميع السلاح وتخزينه وتجميع الجموع وبثّ الفوضى وإرهاب المواطنين وغيرها ممّا كتب في ألواح الدّاخليّة المحفوظة إلى يوم النّاس هذا!... بل كانت أبحاثه متّجهة ناحيّة التأكّد من الهويّات وتحديد العلاقات وتأكيد الإرجاء بدل الإبطال وقيامنا ضدّ الحكم الجديد مخلّص تونس من أصنام لم تعد السيادة اليوم إلّا بها!...
ويوم ختموا لي البحث احتفلت بإمضائه احتفالا فاق احتفال والديّ بمولدي!.. دون أن أتبيّن مصلحة الباحث من اختباري في حفظ سورة الأنفال أو التوبة ولا تدقيقاته في رجليّ لضبط آثار الصلاة ولا سعيه لمعرفة راتبي ولومه لي على عدم القناعة!... كما احترت في أولويّة ما أحفظ في ذاكرتي!... أصورة هذا الوحش المهدّد لرقّة الوحوش أحفظ، أم صورة هذا المحتفل معي بانتهاء البحث، وهو يتمنّي لي حسن المواصلة!...
غير أنّي خرجت من ذلك المكان بتقييم مفاده، أنّه مكان ملعون ملعون مَن فيه، بل وملعون صاحب القصر وأصحاب القبّة، حتّى يروا التونسيين آدميين، بدل أن يروهم كما دأبوا مشاريع ترقيات إلى الهاوية، أو سببا للمحافظة على "أمن الدّولة"!... ثمّ ما لبثنا أن انتقلنا إلى السجن!... ... يتبع بإذن الله... عبدالحميد العدّاسي، 01 ديسمبر 2017