لم يكن التسريح بإحسان!... بل كان بالإساءة الموغلة في اللؤم!... تسريح باتّجاة الحياة الميّتة التي أرادوها لنا!... انتماء ل"مجموعة المفسدين" حسب وصف "الوطنيين" المجرمين لمجموعة الإنقاذ الوطني 1987، الوطنيّة!... مسرحيّة سيّئة الإخراج مُهينة لوزارتنا (وزارة الدّفاع) المرغَمة على التواطؤ والانصياع!... انصياع متوّج بالاحتقار!... فبالأمس القريب كان بورقيبة يشير بعصاه إلى الضبّاط السّامين، يقدّمهم لضيوفه تابعين مسلوبي الإرادة أذلّاء فاقدي القيمة، استدرارا لعظمته!... مسرحيّة دارت أحداثها هناك بثكة باردو على خشبة الممرّ الرّابط بين السجن والحياة الميّتة!... تأديب يحرم العسكريين جميع حقوقهم إلّا ممّا كان من استرجاع بعض المال المخصوم زمن الخدمة لفائدة التقاعد!... وعجبا!... محكمة "أمن الدّولة" تطلقنا دون محاكمة لانتفاء الدّليل أو لخدمة "المصلة" بالدّليل!... ووزارة دفاع تؤدّبنا دون دليل، ليكون تأديبها لنا ل"فسادنا" في الدّاخليّة أهمّ دليل!... "تأديب" يحرّم العودة إلى الجهاز ليتمكّن القاصرون فيه من إعادة التمركز و"الإبداع"!.... كانت آثار السجن واضحة في عدم قدرتي على إتقان المشي، وفي تطوّر ملكة النّسيان لديّ، فما ذكرت أسماء بعض النّباتات ولا أسماء شجيرات الغابة، وأنا ابن الرّيف!... كانت أهمّ مخلّفاته بارزة في قليل اكتراث الأبناء أو استغرابهم لهذا القادم الجديد، الدّاخل على أمّهم!... كانت دلالات الخروج من السجن واضحة في القدرة على ملامسة الأكباد وضمّهم وتقبيلهم رغم قلّة تحمّسهم!... فقد ذهبت برودة السّجن بحرارة العلاقة؛ قاتل الله أبناء الدّهاليز أنّى يظلمون!... كانت مظاهر الخروج من السجن متجلّية في ترحيب الأهل (والمؤمنون كلّهم لي أهل) واحتفالاتهم وبذل المستطاع في إشهار الفرحة!... فقد تقوّل مشركو قريش في المسلمين المعتمرين وتحدّثوا فكهين بضعفهم وعنه!... حتّى إذا سمع الحبيب صلّى الله عليه وسلّم بذلك، أمر أصحابه بالرّمل حول الكعبة ليروا منهم قوّة، وليستمرّ الرّمل (الهرولة الخفيفة) سنّة يتّبعها الحاجّ والمعتمر الطّائفان بالبيت، أو يستنبط منها المؤمنون ما يشبهها أو يستند عليها!... ما جعل إخوة منزل بورقيبة يصرّون على أن يكون موكبي إلى قريتي، ببرج العدواني (ريف ماطر ثمّ غزالة) استثنائيّا، ما جعل الموكب حديث النّاس يومها!... لله درّهم ولله درّ إيمان كان يُذيقنا حلاوة الأخوّة الصادقة!... كان يجب في النّهاية أن يكون للاحتفالات نهاية!... وكان عليّ إذن أن أنظر في المشهد الذي يأتي بعدها!... فنحن في دنيا لها شروط الاستمرار فيها!... ويوم ركبت سيّارة الأجرة متنقّلا بين منزل بورقيبة وماطر حظيت بأوّل لقاء!... أوقف السيّارة!... أمرُ السلاطين طاعة كما نقول في تونس!... تفرّس في الوجوه!... نلت إعجابه!... نهرني: بطاقة التعريف!... استعملت بعض ما علّمتني الحياة!... ما الذي تعنيه ببطاقة التعريف!... لم أكن مقبولا!... أنزلني بغلظة!... ما هذه اللغة!... أين تعتبر نفسك!... إنّك في بلد القانون!... سطوت على الكلمة: إذن أبلغ رئيسك أنّ في بلد القانون أناسا خارجين عن القانون، لا يحملون بطاقات تعريف ولا يملكونها!... أعترف أنّي كنت وقتها أتكلّم لغة غريبة لم يتعوّدها هذا العون ولا حتّى الذين كانوا معي في السيّارة!... خفت سوء الفهم، فقدّمت نفسي: النّقيب عبدالحميد العدّاسي!... أين أوراقك؟!... لا شيء منها عندي فأنا حديث خروج من السجن!... ألم تسمع بالمجموعة الأمنيّة!... لا أبدًا!... ولا حتّى مجموعة "المفسدين"!... آه؛ نعم؛ سمعت عن هذه!... أنا منها، فبلّغ رؤساءك أنّه لا بدّ لل"مفسدين" من بطاقة تعريف!... عن مضض أطلقني واعدا بفعل ذلك!... شكرته مردِفا: تذكّر وجهي فأنا إلى حين بدون هويّة!... كان كتمُ ما يجري في الدّهاليز عن التونسيين مبالغةً في الاستهزاء بهم وعملا على تجهيلهم وتحييدهم وادّخارَ أوراق يستعملها النّظام الظالم عند الحاجة!... لذلك لم أستغرب عدم سماع العون عن المجموعة الأمنيّة أو سماعه عنها بمفردات تؤكّد فيه اهتمامه ب"حفظ الأمن"!... دأبوا أو دأبنا في الحصول على بطاقة هويّة!... حرصوا إلّا تكون تحمل صفة الضّابط المتقاعد أو الضابط المؤدَّب المفصول أو صاحب أعمال حرّة!... اختاروا لنا من المهمّات ما يسرّع بنا إلى لامبالاة النّاس!... ففي تونس لا يُكترثُ لأشرف النّاس وأكثرهم قيمة في المجتمع إنتاجا وإصلاحا!... لا يُكترث إلى عامل النّظافة ولا إلى العامل اليومي!... حصلت على الهويّة الجديدة بوظيفة [عامل يومي]!... وظيفة لا تنسجم مع المظهر غير أنّها تؤدّي الغرض في الإذلال و"تصغير" الشأن المؤمّلين!... مكثت بعض الوقت بمنزل بورقيبة، ثمّ كانت النّقلة إلى المنستير أين أراد الله تعالى لي الانطلاق من جديد بعونه وتوفيقه ثمّ بمساعدة هذا الرّجل الخيّر الخفيّ، الحاج عيسى الغربي صاحب محلّ [مرطّبات اليوم]!... وبسرعة لم أعد أذكر خيوط حبكها، وجدتّ نفسي مع أخي وزميلي (صنعة وسجنا) النّقيب شكري لجنف، نقتحم بتوصيات ومساعدة أخينا السابق إلى الميدان رضا التونسي، ميدان تربيّة الدّواجن!... ويوم رآني الوكيل أوّل، مسؤول الرّياضة، زمن وجودي في أحد فرق الثلاثي العسكري، ببدلة عملي الجديد، وقد غشتها فضلات الدّجاج، انهار بين يدي أعوان الشرطة في المكان باكيا، يحدّثهم عن النّقيب وصولاته وجولاته!... والشرطة يومئذ تتنصّت الأخبار على نقيبه، تريد التعرّف عليه عن قرب، عن طريق المراقبة و"الإرشادات" الفلاحيّة!...
... يتبع بإذن الله تعالى... عبدالحميد العدّاسي، 05 ديسمبر 2017