يعطينا المأزق الحالي للمصرف العملاق 'غولدمان ساكس' تلخيصاً وافياً معبّراً عن مأزق الإدارات السياسية الدولية التي يتحكّم بها هذا المصرف الاحتكاري الربوي وأمثاله، فهو متّهم اليوم بممارسة الخداع والابتزاز، والنصب والاحتيال. وهو يواجه سلسلة طويلة من الدعاوى القضائية المالية على مستوى الدول، في الولاياتالمتحدة وخارجها. ويحدث هذا بعد أن كان 'غولدمان ساكس' وأمثاله يعتقدون، حتى الأمس القريب، أنهم نجحوا في تغييب الإنسان تماماً لصالح الفراغ، بعد أن حوّلوه إلى ذرّات وهباء وهلام، وأفقدوه هويته الوطنية والقومية، أي حرّيته واستقلاليته وإنسانيته. إنّ الفراغ المقصود ('نهاية التاريخ' كما وصفوه!) هو السيادة السياسية الدولية للشركات المتعدّدة الجنسيات. سيادة شركات ما فوق الوطنية والقومية والإنسانية، التي بلغت ذروة صعودها في العهد الريغاني/التاتشري، في الثمانينيات الماضية، والتي بدت كأنّما هي نجحت في تحويل الإنسان إلى مجرّد سلعة، بعد أن نجحت في إقناعه بالمقولات التلمودية الصهيونية التي تصنّفه مجرّد كائن أدنى، وسطاً مابين الحيوان والإنسان، ونجحت في إقناعه بالتصرّف طوعاً بصفته هذه! إنّ الإسرائيليين والأميركيين يتعاملون مع الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم بالضبط على هذا الأساس، وهناك بين الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم من اقتنع وتجاوب، ويا للعار. ولكن، تحت سطح التيارات والظاهرات الخارجية، التي أبرزت مشهداً عالمياً سديمياً يبدو فيه كلّ شيء مثل كلّ شيء، سرعان ما اتضح أنّ الجوهر الإنساني يبقى كامناً وعصيّاً على الفناء، وأنّه ينتظر فرصته بصبر متأهباً لمواجهة العدم وأصحابه. إنّ الميادين العربية والإسلامية، بخاصة في فلسطين والعراق وأفغانستان، تعبّر أبلغ تعبير عن هذه الحقيقة، وتؤكّدها اليوم، على مدار الساعة، نيابة عن العالم أجمع. على مدى العقود والقرون الماضية دمّروا قارات لصالح بناء قارات، وأبادوا أمماً ومجتمعات وطبقات لصالح نهوض غيرها. كذلك سحقوا احتكارات كثيرة أدنى لتنهض على أنقاضها احتكارات قليلة أعلى. وبعد ذلك، في هذه الحقبة الانتقالية من التاريخ البشري، بلغت الاحتكارات الأعلى وضعاً انقسمت فيه على نفسها، تماماً مثلما تفعل بعض الكائنات المجهرية الجرثومية، فالتهم نصفها المالي الربوي نصفها السياسي الحكومي، ثمّ اتصل النصف المتبقّي بذاته فولد كائناً شبحياً، محلّقاً كحشرة خرجت من شرنقتها المتيبّسة وقد اكتسبت جناحين، هو هذه الشركات المتعدّدة الجنسيات، مصاصة الدماء الطنّانة التي تجوب القارات. لقد انتهت حقبة الأزمات الرأسمالية الروتينية، التي قيل أنّها عبّرت دائماً عن دينامكية النظام الرأسمالي الدولي، وعن قدرته على التجدّد والابتكار. وبينما يزعم الاحتكاريون أنّ ذلك لم يحدث، وأنّ هذه الأزمة روتينية طبيعية مثل سابقاتها، فإنّ مأزق 'غولدمان ساكس' يؤكّد أنّ الخلايا الحية للجسم الربوي الشايلوكي كفّت عن التجدّد، فهو اليوم جسم محكوم بمصير تلك الحشرة التي تحلّق مؤقتاً في آخر مراحل حياتها. لقد تبدّلت المرتكزات الأساسية، التحتية المادية، التي تنهض عليها الحياة الدولية بصورتها التعيسة الراهنة، الأمر الذي يدلّ عليه هذا الاضطراب العظيم الذي يعصف بمختلف فروع الحياة ومستوياتها وتجلياتها، وأولها فروع المال والأعمال الاحتكارية، وإنّ المتوقّع أن يتبع هذا التبدّل التحتي المادي تبدّل فوقي يشمل جميع البنى والوسائط والوسائل التي تتشكّل منها العلاقات الإنسانية. وليس أدلّ على ذلك من بروز الدول الناهضة (المستعمرات السابقة) في مجموعة العشرين كقوة حاسمة يستحيل تجاوزها. في هذا العصر الأوروبي/الأمريكي، وعلى مدى حوالي خمسة قرون، تبدّلت ملامح ومكونات وعلاقات النظام العالمي أكثر من مرة: من القرصنة وقطع الطرق الدولية، إلى غزو وحرق ونهب وسلب جميع الأمم، إلى الاستعمار والإبادة والاستيطان، إلى المركزية الإمبراطورية الصارمة والاحتكار الفظيع لجميع أسباب الحياة، إلى الصيرفة والربا وامتصاص دماء الشعوب بوساطة شبكة عنكبوتية تلفّ الأرض بأكملها! أمّا في الأساس فقد تبدّلت المرتكزات المادية من نظام 'المانيفاتورة'، إلى الآلة البخارية، إلى الصناعات الممكننة، فمحرّكات الديزل والكهرباء، وأخيراً الصناعات التكنترونية. لكنّ هذا النظام العالمي احتفظ في جميع مراحله بخصائصه الجوهرية كنظام يقوم على التمييز والاحتكار. اليوم، يبدو واضحاً أنّ الخصائص الجوهرية لهذا العصر الأوروبي/الأمريكي ونظامه العالمي قد آذنت بالزوال، وبإخلاء المكان لخصائص جديدة تكاد تتبلور بل بدأت تثبت وجودها. فالحياة العالمية، التي كانت تتحمل وتطيق على مضض ما ترتّب على سياسات النظام الرأسمالي من مآسي، فقدت كلّ قدرة على التحمّل، بخاصة بعد التغييرات الانقلابية الكبرى المادية والديمغرافية والبيئية، وبذلك دخل العصر التاريخي المحدّد لهذا النظام، والذي لا يمكن أن يكون إلاّ محدّداً، مرحلة الاضمحلال التي تؤذن بزواله. إنّ زمام الحياة السياسية الدولية على وشك الإفلات من قبضة الصيارفة الشايلوكيين الذين أمسكوا به تماماً خلال العقود القليلة الماضية، لكنهم يتشبّثون به على أساس أنّ الأزمة الرأسمالية الحالية روتينية، من النوع المعتاد الذي يعكس صحّة وحيوية نظامهم، بينما الحال ليس كذلك قطعاً، فهي أزمة مفتوحة لا حلّ لها، ولن تنتهي إلاّ بزوال النظام الذي سبّبها، والذي أصبح عاجزاً عن الخروج منها. إنّ الموظفين السابقين في مصرف 'غولدمان ساكس' يحتلون مناصب عليا في حكومات وإدارات دول كثيرة أولها الولاياتالمتحدة. وهذا المصرف وأمثاله تمتّع بنفوذ هائل جعله في موقع من يستطيع تحقيق الانهيار المالي الهائل للنمور الآسيوية بالأمس، وتعريض دولة بكاملها لخطر إعلان إفلاسها اليوم، كما فعل باليونان، بل جعله في موقع من يقرّر تجييش الجيوش وشنّ الحروب. وهاهو اليوم متهم ببيع أسهم مرهونة بقروض مشكوك في سلامتها، كالقروض العقارية التي كانت وراء الأزمة المالية العالمية. وبينما حال الصيارفة الشايلوكيين كذلك، نرى حكومات الأمم الأخرى، الناهضة، وقد عكفت على بلورة مؤسسات مالية أخرى، أو علاقات مالية أخرى، بإقرار مبدأ التعامل المالي الثنائي الحرّ بين دولتين بعملتهما الوطنية، ونراها عاكفة على إيجاد بديل للدولار الأمريكي إن عاجلاً أو آجلاً، وعاكفة أيضاً على الحيلولة دون فرض السياسات الأوروبية/الأميركية قسراً على الدول المستضعفة. كاتب سوري