تطرح التطورات في الشرق الأوسط عدة أسئلة في ظل ما قد تحدث من تأثير مباشر على العملية في المنطقة. وقد لا تكون هذه الأسئلة إلا دربا للوصول إلى عدة استنتاجات إذا ما نظر اليها بتأمل وفحصت بترقب: أول هذه الأسئلة كيف سيكون لهذه التطورات أثر على لبنان وعلى اليمن في وقت أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من الرياض ووضع الرئيس اليمني قيد الإقامة الجبرية في العاصمة السعودية؟ ومن ثمة هل أن حملة الاعتقالات التي طالت كثيرا من القيادات ورجال الأعمال السعوديين من العائلة المالكة والمؤثرين في القرار السعودي قد تكون فقط في إطار «الحرب على الفساد» كما سميت رسميا سعوديا؟ وفي هذا السياق هل أن الخطاب الرسمي للنظام السعودي يمكن تقبله فقط في إطار الصراع السعودي الإيراني (السني الشيعي) في المنطقة؟ تشير قاعدة من قواعد الاستراتيجيا إلى أن الضغط على أي من عناصر صراع معين يولد الانفجار، وأن أي فاعل في هذا الصراع يشعر بهذا الضغط سيحاول أن يعيد تشكيل عناصر الصراع لكي لا يضرب في عمقه وينفجر وذلك بإعادة توزيع الضغط بين العناصر التي تدور حول فلك النظام في الداخل والخارج، حتى لا تكون وطأتها كلها على هذا النظام وتقسمه أو يعوض القائمون عليه بعناصر جديدة تفقده توازنه. لم تكن بوصلة الملك سلمان وابنه محمد بن سلمان بعيدة عن هذا المبدأ في احداثيات خارطة الشرق الأوسط المتجددة، إذا ما أدركنا المعطيات التي نتجت عن السنوات السبع التي صبغت الشرق الأوسط، وخاصة فشل استراتيجية الرياض في سوريا والتي زادت نفوذ الإيرانيين في كل من العراقوسوريا، وبه زادت قوة حزب الله في لبنان سياسيا وعسكريا وقويت شوكته في شمال الجزيرة العربية وبات تقدمه يشكل أحد المعضلات بالنسبة للسعودية وكذلك لإسرائيل. من جهتها فإن الحرب على اليمن تسببت في خسارة تكتيكية بالنسبة للمملكة العربية السعودية وحلفائها في هذه الحرب، خاصة وأن الحوثيين قاموا بحرب عمودها الفقري الكر والفر وتشتيت الأهداف، لم تمكن الرياض من حسم الحرب بالرغم من حجم الدمار والخسائر البشرية المجحفة في المدنيين، كما تسببت في تراجع الاقتصاد المعاشي السعودي القائم على عائدات البترول. وبالإضافة إلى هذه العوامل فإن عوامل أخرى دخلت فيها الرياض في فضائها الإقليمي ومنها رغبتها في فرض ارادتها في توزيع القوى في المنطقة، خاصة مع «اخراج» قطر من الجلباب الخليجي بحجة تمويل الإرهاب، واختيار الأخيرة المواجهة أو المفاوضة وفق شروط ترفضها الرياض، دفع آخذ القرار السعودي الى إعادة توزيع قواه على ما تبقى لها من مراكز قوى في الشرق الأوسط. كما هذا التوزيع يأخذ بعين الاعتبار تزعزع النفوذ بعد «اتفاق التسوية» الذي أصبح على إثره حليف الرياض رئيسا للوزراء بشروط حزب الله مقابل انتخاب ميشال عون رئيسا لبلاد الأرز، خاصة بعد انتصار دمشق وحلفائها في سوريا، وفشل الأكراد في تكوين جبهة صد ضد الامتداد الإيراني في المنطقة خاصة بعد فرض بغداد لسلطتها على أكراد العراق وكذلك بداية رفض دمشقوبغداد وانقرة لأي محاولة لانفصال فدرالي كردي في شمال سوريا. ولعل فشل هذين الخطين، اللذين كان يمكنهما أن يشكلا توازنا بالنسبة للاستراتيجية البديلة للرياض خاصة بعد الفشل في الإطاحة بنظام الأسد في حدودها الشمالية، وذلك من خلال اضعاف سلطة بغدادودمشق وقطع الطريق امام تقوية حلف طهرانبيروت (الضاحية الجنوبية)، هو ما فرض ضغطا جديدا على النظام السعودي الحالي والذي يتميز بسيطرة تيار جديد متصلب في مواقفه خاصة وأن الانتقال فيه يحدث لأول مرة من الجيل الأول للملوك إلى الجيل الثاني، بعد أن أبعد ابن الملك الحالي كل سابقيه وعين وليا للعهد بصلاحيات كبيرة والذي يعتبر فرعا من تيار السديري في الأسرة المالكة السعودية. هذا التيار بدأ يحكم السعودية منذ وفاة الملك عبدالله يعتبر فرعا من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز ال سعود من زوجته حصة بنت أحمد السديري الذي وصل للملك في السعودية لثاني مرة بعد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. ويبدو أن هذا التيار يسعى للحفاظ على سلالة الحكم والملك في السعودية خاصة بعد أن أبعد الملك سلمان كلا من أخيه مقرن وابن أخيه محمد بن نايف من ولاية العهد ليسندها لابنه محمد ذي ال33 ربيعا. هذه الخطوة لقت استهجانا كبيرا داخل العائلة المالكة في السعودية، إذ يرى أغلبهم أنها خطوة متسرعة وأن هناك من هو أجدر بهذا المنصب، ومن هؤلاء الذين ينتمون إلى الجيل الثاني للأمراء السعوديين، الوليد بن طلال وأباه وزير المالية السابق طلال بن عبد العزيز آل سعود والذي عارض عزل مقرن ومحمد بن نايف. عبارات استهجان يبدو أنها سمعت في قصر اليمامة الملكي الذي سارع إلى التحرك تحت يافطة «مكافحة الفساد» لكبح أي محاولة انقلابية محتملة قد يقدم عليها التيار الموالي للملك الراحل عبد الله. ويرى نفس المنضوين تحت هذا التيار أن ما ذهب اليه الملك الجديد وابنه بفتح حرب في اليمن طالت مدتها ساهمت في أضعاف المملكة اقتصاديا، خاصة بعد فشل الاستراتيجية السعودية في سوريا، وكذلك مع تراجع اسعار البترول والتي فرضت على المملكة تقشفا لم يتعود عليه سابقا مقابل ارتفاع مصاريف الدفاع وشراء الأسلحة (110 مليارات دولار قيمة صفقات دفاعية مع أمريكا منذ جوان الفارط). ولعل هذه الأسباب هي التي دفعت بولي العهد محمد بن سلمان لإطلاق «ليلة سكاكين طويلة» ضد المنضوين لتيار الملك عبد الله وجلهم من هيئة البيعة في السعودية ومن أكبر رؤوس الأموال وكبار قادة الأجهزة الأمنية التي يقوم عليها النظام السعودي ومنهم الأمير متعب رئيس الحرس الوطني السعودي والذي يعد الجهاز الذي أحدث لجمع كل ابناء القبائل السعودية ابان انتهاء حروب توحيد المملكة وقوامه 100 ألف جندي (تكون من «إخوان من أطاع الله» والذين اعتمد عليهم سعود في اخضاعه لقبائل الجزيرة العربية). ويبدو أن الخطوة التي أقدم عليها دفعت ولي العهد جاءت لفك الضغط عن النظام وذلك بفتح جبهات صراع أخرى في الخارج ترفع الضغط عن «الداخل» وابعاده من جديد عن الجبهة الداخلية السعودية وهي ليست المرة الأولى التي تنتهج فيها الرياض هذ النهج، فتاريخيا قامت الرياض بتصدير الصراع من داخلها الى أفغانستان وكذلك الى سورياوالعراق، كما يمكنها أن تعيد توجيهه الى لبنان من جديد. ما يمكن قوله أن نتاج ما حصل في الأيام الأخيرة في المملكة سيترتب عليه إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة، خاصة وجود ضوء أخضر أمريكي ممنوح للنظام السعودي في الحملة الأخيرة، ومباركة لحربه على اليمن، وموافقة على أي خطوة يمكن للسعودية القيام بها في لبنان بعد أن أصبح الملك سلمان الرجل المفضل لأمريكا في المنطقة، وبمباركة من ترامب مباشرة في زيارته الأخيرة للرياض. في المحصلة، نحن اليوم بصدد سماع ارتدادات نتائج حرب السبع سنوات في سوريا وسنتين من ضرب اليمن وفشل انفصال الأكراد وقطع «الطريق» بين قم ومارون الراس.