رغم أن الحق في حماية المعطيات الشخصية من الحقوق الدستورية المنصوص عليها منذ دستور سنة 1959، الاّ أن هذا الحقّ الدستوري تم التنكيل به زمن الدكتاتورية ولم تحترمه مؤسسات الدولة وخاصّة الأجهزة الأمنية التي دأبت على انتهاك المعطيات الشخصية للمواطنين، حتى بوجود القانون الأساسي عدد 63 لسنة لسنة 2004 الذي مازال ساري المفعول الى اليوم.. وتفاديا لكل انحراف بهذا الحق فقد كرّس الدستور الجديد للجمهورية الحق في حماية المعطيات الشخصية كحق دستوري بمقتضى الفصل 24 من دستور 2014.. واليوم تنكب لجنة الحقوق والحرّيات صلب مجلس نواب الشعب على مناقشة مشروع قانون أساسي جديد لحماية المعطيات الشخصية أحالته الحكومة الى المجلس منذ أشهر.. مسار حماية المعطيات الشخصية الذي تم تدعيمه من خلال انضمام تونس إلى الاتفاقية رقم 108 لمجلس أوروبا المتعلقة بحماية الأشخاص تجاه المعالجة الآلية للمعطيات الشخصية، وإلى بروتوكولها الإضافي رقم 181 الخاص بسلطات المراقبة وانسياب وتدفق المعطيات عبر الحدود، بمقتضى القانون الأساسي عدد 42 لسنة 2017 المؤرخ في 30 ماي 2017، لتصبح بذلك الدولة التونسية رابع دولة في العالم خارج الفضاء الأوروبي تنخرط في هذه المنظومة. وفي مارس الماضي صادق مجلس الوزراء على مشروع القانون الأساسي الجديد المتعلّق بحماية المعطيات الشخصيّة والذي يهدف بالأساس إلى مواكبة تشريعيّة للتطور الهائل والمستمر لتقنيات وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتخلي عن اشتراط الجنسية التونسية في الذّوات الطبيعية أو المعنوية لممارسة نشاط معالجة المعطيات الشخصية، وإلى إخضاع الأشخاص العموميين إلى نظام عام لحماية المعطيات الشخصية على خلاف التشريع الحالي الذي يقتصر على أشخاص القانون الخاص. كما سعت الحكومة الى تعيين مكلّف بحماية المعطيات الشخصية صلب الهياكل المسؤولة عن معالجة المعطيات الشخصية قصد تيسير التّعامل معها من قبل المعنيّين بمعالجة معطياتهم الشّخصيّة وضمان حقّ نفاذهم لها. وتحجير إحالة المعطيات الشخصية إلى الغير دون موافقة الشخص المعني بالمعالجة ووضع الإطار التشريعي العام "للمعرف الوحيد للمواطن". ومشروع القانون الأساسي الجديد المتعلّق بحماية المعطيات الشخصية، موجود اليوم في لجنة الحقوق والحريات للنقاش حوله بين مختلف الكتل النيابية، هذا القانون الأساسي الذي سيفرز هيئة وطنية جديدة لحماية المعطيات الشخصية للتونسيين يعتبر من أبرز المنجزات التشريعية بعد الثورة، وتدفع كل الأطراف المعنية إلى أن يتوفّق مجلس نواب الشعب إلى المصادقة في النهاية على قانون يوفّر ضمانات حقيقية لحماية المعطيات الشخصية دون أن يتصادم مع حقوق أخرى وأبرزها الحق في النفاذ الى المعلومة الذي يعدّ من أبرز المكتسبات الدستورية وضمانة قوّية لحرّية التعبير وكذلك ضمانة هامّة خاصّة في علاقة بمكافحة الفساد والتصدّي له.. ولكن هذا الحق يبقى سلاحا ذا حدّين لو أسيء استعماله أو توظيفه لأنه قد يكون مدخلا للتضييق على حق آخر هو حق النفاذ إلى المعلومة. ولكن اليوم بات قانون حماية المعطيات الشخصية يطرح بدوره إشكاليات أبرزها عدد من التحفّظات أبداها الخبراء والهيئات الوطنية التي تحتك مهامها بهذا القانون.. تهديد لحق النفاذ إلى المعلومة منذ أيام عقدت لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب لقاء مع الخبيرة الأوروبية ماري جورج بصفتها عضوا في الهيئة الفرنسية لحماية المعطيات الشخصية وخبيرة معتمدة لدى عديد الدول في العالم، وذلك على خلفية نقاش مشروع القانون الأساسي المتعلّق بحماية المعطيات الشخصية صلب اللجنة. وقد أبدت الخبيرة الأوروبية تحفّظها في علاقة ببعض بنود القانون، وأشارت إلى عدّة نقائص تتعلّق بمعظم فصول هذا القانون المتضمّن ل 120 فصلا والمعروض على أنظار اللجنة، ومنها اخلالات تقنية، بما يستوجب مراجعته بالكامل حتى يتلاءم مع المعاهدة الدولية عدد 108 التي صادقت عليها تونس. وأكّدت الخبيرة الأوروبية على ضرورة تسريع العمل على هذا المشروع خاصّة وأن سنة 2019 ستشهد استحقاقات انتخابية، معتبرة أن أهمية إرساء هذا الإطار التشريعي تكمن في ضمان الحماية ضد التجاوزات التي يمكن أن تسلّط على المعطيات الشخصية في عدة مستويات. وفي تصريح ل"الصباح"، أكّد رئيس هيئة النفاذ الى المعلومة عماد حزقي أن الهيئة عند الاستماع إليها من طرف لجنة الحقوق والحرّيات حول مشروع قانون حماية المعطيات الشخصية أبدت عدّة تحفّظات بشأن مشروع القانون، وقال "لقد تم للأسف تغييب هيئة النفاذ للمعلومة تماما عن مسار إعداد وصياغة مشروع القانون الأساسي، ومن ناحية المضمون لم يتم التمييز بين المعطيات الشخصية المتصلة بالحياة الخاصّة للأفراد وتلك المتصلة بإدارة الشأن العام والمضمّنة بالوثائق العمومية، والغريب أن مشروع هذا القانون يستثني في فصله الرابع "المعلومات المتصلة بالحياة العامّة أو المعتبرة كذلك قانونا". ويضيف الحزقي "إن التوفيق بين حماية المعطيات الشخصية، وضمان حق النفاذ للمعلومة أمر مفقود تماما.. وهو ما دفعنا الى المطالبة بمراجعة هذا الفصل، ونحن اعتبرنا أن النص المكرّس في الفصل الرابع من مشروع القانون يوفّر ذريعة قانونية للهياكل العمومية لممارسة سياسة التعتيم عن المعلومة ويمثّل تراجعا خطيرا عن تكريس مبدأي الشفافية والمساءلة تحت غطاء حماية المعطيات الشخصية، وقد شدّدنا على لجنة الحرّيات والحقوق في إضافة فصل ينصّص على مطالب النفاذ الى المعلومة بما في ذلك مطالب النفاذ الى المعطيات الشخصية الواردة بالوثائق العمومية والتي تبقى خاضعة إلى الاحكام الواردة بالقانون الأساسي عدد 222 لسنة 2016". رئيس هيئة النفاذ الى المعلومة اكّد أيضا أن هناك لُبسا في تحديد المفاهيم صلب مشروع القانون واعتداء على "صلاحيات هيئة النفاذ الى المعلومة" حيث تضمّن المشروع قسما بعنوان "الحق في النفاذ" وأسند اختصاصا لهيئة حماية المعطيات الشخصية للنظر في النزاعات المتعلّقة بممارسة حق النفاذ المباشر، ويقول "هذا الأمر سيُحدث دون شك التباسا واضحا في ذهن المواطن بخصوص ممارسة حقّه في التقاضي ضدّ الهياكل العمومية في صورة رفض طلب النفاذ الى المعلومة الخاصّة به.. كما سيخلق ارتباكا بخصوص تحديد الجهة القضائية المختصّة في هذا الشأن بين الهيئتين". وتصرّ هيئة النفاذ الى المعلومة على اعتبار مشروع القانون المتعلق بحماية المعطيات الشخصية ينال من جوهر الحق في النفاذ الى المعلومة ويمثّل تراجعا خطيرا عن المكاسب التي تحققت في مجال الشفافية والمساءلة والحق في النفاذ الى المعلومة.. وفي انتظار أن يحسم الأمر تشريعيا في مجلس نواب الشعب، يبقى الحق في حماية المعطيات الشخصية من أبرز الحقوق الأدبية لدولة القانون والمؤسسات، ولكن مع ضرورة أن لا يكون هذا القانون تعلّة لحجب أو اخفاء المعلومة، والاعتداء على حق دستوري آخر هو حق النفاذ للمعلومة. منية العرفاوي