تناول برنامج «بتوقيت تونس» على قناة التلفزة الوطنية الأولى في إحدى حلقاته مؤخرا أزمة الصحافة المكتوبة في تونس وتحديدا الصحافة الورقية، كان ذلك في ركن «نقد الميديا» الذي يقدمه سيف الدين العمري في نفس البرنامج اليومي الذي ينشطه مكي هلال. وانطلق الطرح من تقرير تضمن معطيات وأرقام تشخص واقع القطاع وحقيقة الأزمة التي يمر بها في سنوات ما بعد الثورة تؤكد الوضع المتردي للصحافة الورقية مبينا أن في 2011 سجلت الساحة 255 إصدارا تتوزع بين صحف يومية وأسبوعية ونشريات ومجلات شهرية وغيرها ليتراجع العدد وتصبح في حدود 50 إصدارا فقط في 2018. ولئن كان التناول لهذه الأزمة في نفس البرنامج صائبا إلى حد ما في التشخيص وفي تأكيد حقيقة الأزمة على اعتبار أنها أزمة يعاني منها قطاع الصحافة الورقية بشكل خاص ليس في تونس فحسب وإنما في العالم أجمع لكن بدرجات متفاوتة، فإن هذا الطرح لم يخل من تحامل على القطاع بطريقة تساهم في تأزيم وضعه لاسيما أنها تأتي في سياق سياسي واجتماعي واقتصادي رديء. ومكمن هذا التحامل في الحكم على القطاع ب»الموت» سواء بالمفهوم الصحيح والعبارة الصريحة للكلمة والركوب على توجه وخيار لطالما رفعه البعض في السنوات الأخيرة بدعوى أن الصحافة المكتوبة والورقية تحديدا لم تعد صالحة للزمان وأن الخيار اليوم في التوجه للبديل المبني على التكنولوجيات الحديثة عبر وسائط وشبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الالكتروني. وقد أجمع أغلب المتدخلين في البرنامج على هذه القراءة التي بدت غير معمقة ولا تعكس حقيقة ووضع القطاع اليوم، وهي البديل الذي يجب المراهنة عليه لتدارك هذه الأزمة ولم يتم طرح المقاربات والأفكار التي تصنف في خانة الحلول لمعالجة الأزمات والمشاكل التي تكبل هذه القطاع بتشريك أو الاستناد إلى أراء أهل المهنة والعارفين بشؤونها وأمورها، على نحو يكون الطرح والتناول هادف في طرح استباقي لإمكانية استفحال الأزمة خاصة أن أهل هذا القطاع لطالما ناشدوا سلطة الإشراف والهياكل المختصة بما في ذلك النقابية وجمعية مديري الصحف وغيرها للتدخل والدفع نحو مراجعة واقع القطاع ومعالجة إشكالياته والاستئناس ببعض التجارب الدولية الرائدة في أوضاع وأزمات مشابهة وممثالة عرفتها الصحافة الورقية منذ سنوات وذلك بتدخل الحكومات والأنظمة في بلدان أوروبية وأمريكية لإيجاد حلول لهذه الأزمة على نحو تسنى للمؤسسات الإعلامية الورقية القفز على تلك الأزمات وتحقيق انتعاشة كبيرة في المبيعات والإقبال دون ذكر أسماء هذه الصحف. فنحن لا ننكر أن للأزمة متعلقات أخرى يعد العزوف عن القراءة المسجل في تونس اليوم بدرجة أكبر في صفوف الشباب من بين أبرز أسبابها مما يعني أن أزمة القطاع في جانب كبير منها مرتبطة بالتوزيع والتراجع الكبير في الإقبال على شراء الصحافة الورقية. لذلك كان طرح واقع الصحافة الورقية في هذا البرنامج كمسألة عرضية غير مجدي ويفتقد للمعالجة الهادفة للإصلاح بتشريك الجهات الفاعلة أو المختصة بعيدا عن «السطحية» والتناول العاطفي خاصة أن سيف الدين البكري وصف الأزمة في بداية تقديمها بكونها «أزمة مؤلمة فيها حنين» وقد شاطره الجميع في ذلك. في حين واقع هذه الأزمة أعمق وأفظع مما يعتقده البعض لاسيما في هذه المرحلة في ظل غياب مبادرات أو نوايا إصلاح حقيقية للقطاع. فيما اختزل المشاركون في البرنامج بما في ذلك مقدمه مكي هلال أن الحل يكمن في التوجه للبديل الالكتروني والأخبار المتداولة عبر شبكات التواصل الاجتماعي في حين تناسى أو غاب عن هؤلاء أن الإعلام المكتوب وتحديدا الصحافة الورقية لها خصوصيتها وشروطها في تعاطيها مع المادة الإعلامية ثم أنها ليست مبنية فقط على الإخبار أو «الأقلام اللامعة» مثلما ذهب إلى ذلك الحبيب العجيلي في تقييمه وتحليله للأزمة مقتصرا على أسماء ساهمت في سياقات زمنية وسياسية وثقافية معينة في التعريف بها وتنصيبها على في خانة «الرموز والنجوم» دون سواها، لأن في ذلك إجحاف في حق أجيال أخرى من الصحفيين الذين يعدون اليوم من رموز الصحافة المكتوبة. وهو توجه ومنحى راهن عليه البعض في سنوات ما بعد الثورة بهدف «إعدام» الصحافة الورقية والتنصل من عبء ومتطلبات هذا القطاع من طاقات بشرية وامكانيات مادية ولوجيسيتية والهروب من إمكانية إصلاحه، خاصة أن ذلك يتزامن مع استفحال الأزمات في مختلف المجالات ومحاولات البعض الهروب والتنصل مما نص عليه الدستور الجديد بحق المواطن في الإعلام في إطار التعددية من ناحية وحماية وضمان التعددية الفكرية وعلى اعتبار أن الإعلام يعد ركيزة أساسية في العملية الديمقراطية من ناحية أخرى. فالصحافة الورقية وإن صنفت في خانة الإعلام التقليدي، لا يمكن القضاء عليها والتوجه إلى بديل لم يصل إلى اليوم إلى مبادرة لتقنينه وتثبيت وجوده تشريعيا وتنظيميا بما يضمن للعاملين فيه التمتع بالحقوق والامتيازات الكاملة. خاصة أن مثل هذه الأصوات تعالت وتداول البعض نفس التوجه بعد ظهور الإعلام السمعي البصري وانتشاره واكتساحه للساحة. فالقطاع اليوم في حاجة إلى مبادرات وإرادة سياسية تدفع للإصلاح والتأسيس وإعادة الهيكلة. لأن مقياس عدد الإصدارات التي ظهرت في السنوات الأولى للثورة واختفاء عدد كبير منها إنما ظهرت لأسباب وغايات سياسية وحزبية وإيديولوجية سريعا مازالت بزوال وقضاء الحاجة التي أملتها لخدمة أجنداتها وكان الصحفي مرة أخرى هو الضحية الوحيدة في هذه الوضعيات والأجندات. القطاع اليوم في حاجة لمبادرات ومحاولات ورؤى إصلاح حمّالة لحلول تؤسس وتكرس عادات القراءة من ناحية وتطوير الأدوات الصحفية من ناحية أخرى تماشيا مع الواقع وليس في حاجة لطروحات تساهم في تعميق الجراح وتوسيع قاعدة الأزمة.