فشل ثان في المفاوضات بين وزارة التربية والنقابة المعنية ممثلة في الجامعة العامة للتعليم الثانوي يضاف الى فشل سابق في قطاع التعليم العالي وما سبقه أيضا من محاولات انتزاع فتيل الازمة بين الحكومة والمنظمة الشغيلة قبل اعلان الاضراب العام في الوظيفة العمومية والقطاع العام... مسلسل الفشل المستمر مع ماراطون المفاوضات منذ نهاية العام الماضي تحول الى قضية رأي عام بسبب المخاوف من سنة عجفاء للموسم الدراسي الحالي بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على ميزانية العائلات ولكن أيضا وهذا الاخطر بكل ما يعنيه من تداعيات على مستقبل الجيل القادم ومستوى ونوعية التكوين الذي ننشده.. وبعيدا عن تحميل المسؤولية الى طرف دون غيره فان في ما تابعه التونسيون أول أمس عقب اعلان وزير التربية حاتم بن سالم عن فشل المفاوضات قبل حتى انطلاقها ما يؤكد حالة العبث التي تسود المشهد الراهن وتداعياته الثقيلة على البلاد وخاصة على الاجيال القادمة التي تخسر كل يوم أكثر على طريق معركة المعرفة والعلم والتفوق والمنافسة التي بدونها لا يمكن لاي شعب أن يحقق الازدهار والتطور الذي يتوق اليه.. وبعيدا عن حرب التصريحات والتنافس على تقديم التبريرات بين هذا الطرف وذاك فان الواضح وهذا الاهم أن الوزارة المعنية وهي جزء من مؤسسات الدولة تشكو من الضعف والوهن وغياب الامكانيات فضلا عن الافتقار لملكة التفاوض لا من اجل التفاوض ولكن من اجل كسر الجمود الحاصل وتحقيق التقدم, مقابل النقابة المعنية التي يبدو أنها أسقطت من حساباتها كل الخطوط الحمراء من أجل تحقيق الاهداف والمطالب التي رصدتها وربما اضافة المزيد في كل مرة مستفيدة من حالة الهشاشة والصراعات التي تجرف كل من في السلطة دون استثناء... وهو ما يدفع الى تكريس القناعة في غياب الارادة السياسية لدى مختلف الاطراف لوضع حد لازمة استنزفت من التونسيين الكثير من الوقت وتحولت الى حرب نفسية مقيتة امتدت منذ الموسم الدراسي الماضي لتتاجل معها الحلول وتبلغ ما بلغته اليوم من تعقيدات مع دخول التلاميذ والاولياء على الخط... اذ أنه وبين مفاوضات تنتهي بعد ثلاث دقائق من انطلاقها, واخرى تنتهي قبل حتى ان تنطلق يتضح ان الامر تحول الى معركة كسر عظام وحرب نقابية سياسوية بامتياز لا يراد لها أن تنتهي بما يجعل التونسيين في دوامة الصراعات التي يدفعون ثمنها غاليا على حساب مستقبل ابنائهم ومصير بلادهم.. لا ندري ان كان سيتعين على الحكومة والنقابة البحث عن وسطاء دوليين للجلوس على طاولة التفاوض الجدي والخروج من دائرة حوار الطرشان أم أنه سيتعين استنساخ تجربة "اتفاق دايتون" الذي فرضته ادارة الرئيس بيل كلينتون لجمع الفرقاء في البلقان وعزلهم عن المحيط الخارجي طوال ثلاثة اسابيع الى ان تم الاتفاق وحظي بتوقيع الجميع... نتمنى الا تصل تونس الى تلك المرحلة لان ذلك سيكون مؤشرا على انهيار خطير للتجربة الديموقراطية الناشئة وهو ما لا نريد ولا نتمنى لبلادنا بلوغه... عودة الرشد المفقود مسألة اكثر من مصيرية لتجاوز سياسة الهروب الى الامام.. وفي انتظار الخروج من النفق المسدود الذي بات ينذر بالاسوأ قد يكون من المهم تذكير الجميع أنه كما اقر الفصل 36 من الدستور"بان الحق النقابي بما في ذلك حق الاضراب مضمون وان الاستثناء الوحيد هو الجيش الوطني والامن والديوانة" فان نفس هذا الدستور الذي على هناته يظل حصنا لمصالح البلاد قد أقر في الفصل 39 منه "ان التعليم الزامي الى سن السادسة عشرة وان الدولة تضمن الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله".. لا خلاف أننا نريد دولة قانون ومؤسسات لا دولة دكاكين واحزاب ولوبيات... واذا استحال الوصول الى اتفاق في هذه المرحلة يصبح لزاما على كل الاطراف تاجيل المفاوضات الى حين توفر الارضية المطلوبة لاستعادة اجواء الثقة لانجاحها وهو ما لا يعني التنازل عن الاستحقاقات المشروعة ولكن يعني تغليب المنطق والعودة الى السير العادي للدروس والامتحانات وتحديد رزنامة جديدة يتم بمقتضاها العودة لاحقا للحوار والا فانها ستكون مرحلة التدمير الممنهج للمؤسسة التربوية التي بتدميرها سيكون تدمير البناء المجتمعي والتاسيس لنشر الجهل والامية والتخلف والاستعداد لغلق مزيد المدارس وتدشين المزيد من الاصلاحيات والسجون وهو ما لا يمكن الا للناقمين على تونس القبول به... ما احوجنا اليوم الى جرعة وطنية صادقة ندرك جيدا أنها لا تتوفر في الصيدليات ولكنها قد تكون متاحة للجميع اذا ساد صوت العقل وعاد الرشد المفقود الى أصحابه..