وكيف تبدو حظوظ حوار المصالحة بين الفصائل الفلسطينية؟ وهل تتوصل القمّة العربية المزمع عقدها قريبا في الدوحة إلى رأب الصدّع في العلاقات العربية وتوحيد الموقف العربي في مواجهة التحدّيات المتزايدة والمتعاظمة؟ وماذا وراء هذه الحركية الديبلوماسية المكثفة في الشرق الأوسط؟ هذه التساؤلات وغيرها مثل مصير القدس والوضع في العراق والعلاقات العربية-الايرانية تمثّل هواجس يومية تعيشها الحكومات العربية وتتألم منها خاصّة الشعوب العربية التي لم تهتد بعد إلى أنجع السبل لابلاغ صوتها وإسماع كلمتها... فالرأي العام في العالم العربي غير مؤثر لأنّه لا يخضع لثوابت وتقاليد تنظم تحركاته ومواقفه وردود فعله،، والوعي الجماهيري مازالت تتحكم فيه العواطف أكثر من أي شيء آخر. لكن مع ذلك يبدو أنّ الشارع العربي قد أحدث رجّة في المواقف الرسمية العربية ودفع المسؤولين العرب إلى مواجهة الواقع والسعي إلى تغييره في الاتجاه الذي يحقق الانسجام ولو نسبيا بين الشعوب وقياداتها، وما محاولات تجاوز الخلافات العربية في سبيل تغيير الواقع المتردّي لبعض القضايا العربية المصيرية سوى صورة أولية من ذلك التغيير الذي يتوقّع أن يحصل وربّما يتطوّر مّما سيغيّر المشهد السياسي العربي.. ولعل رحيل -بوش- عن الساحة السياسية بلا رجعة هو الذي يساهم اليوم في إطلاق إرادة التغيير العربية، فهذا الذي يحدث الآن بين القادة العرب هو نتيجة مباشرة للتخلّص من الضغوط التي كانت تمارسها حكومة بوش بكلّ تصلّف وشدّة وابتزاز، وهو أيضا نتيجة الرغبة الملّحة في التجاوب مع إرادة الجماهير التي لم تكن تقدّر مدى ما تمثلّه عنجهية السياسة الأمريكية في عهد بوش من إحراج كبير لكافة الحكومات في العالم حتى في الدول المتقدّمة وليس بالنسبة للدول العربية فقط... وقد تبين أن تلك السياسة قد أضرّت بأمريكا ذاتها باعتراف عدد متزايد من سياسييها ومفكريها الذين يؤكدون بأن سمعة بلادهم ودورها الريادي العالمي قد نالهما الكثير من الضرر والتراجع بسبب سياسة بوش وأخطائه، والكثير منهم يطالب اليوم بمحاسبته وفتح التحقيقات في ما ارتكبه من أخطاء وقد ينتهي الأمر إلى محاكمته... لكن مخلفات تلك السياسة الهوجاء مازالت تفعل مفعولها السلبي في بعض المناطق العربية وبالذات في السودان في الوقت الراهن حيث استهدف الرئيس عمر البشير ومن خلاله يراد التوصل إلى تفكيك السودان والسيطرة على ثرواته تماما مثلما حدث في العراق وهو ما يؤكد أن مسلسل الهيمنة بالقوة على المنطقة العربية مازال متواصلا بهدف قلب الأوضاع الاجتماعية والثقافية بالخصوص ومن خلالها فرض واقع سياسي يخدم مصلحة الذين يتلهفون اليوم على اقتسام الغنائم وفرض هيمنة فكرية وسياسية وثقافية معينة، وفي طليعة هؤلاء إسرائيل ودول من الحلف الغربي. والكل يعلم اليوم أن ما يتعرّض له السودان ممثلا في رمز سيادته يأتي من مؤسسة هي من صنع الحكومة الأمريكية السابقة هدفها توفير الغطاء القانوني لتدويل الازمات والتدخل بالقوّة وبسط الهيمنة من جديد على المستعمرات السابقة... فمحكمة الجنايات الدولية قد وضع على رأسها شخص لا يتوفّر فيه الحياد المطلوب وهو مأمور وغير مخير وميله واضح لخدمة ركاب جهات معينة وفي مقدمتها إسرائيل.. وهكذا لا يبقى مجال للشك في الشبهات التي تحوم حول هذا الهيكل الدولي وأهمّها أنّه يخدم مصالح البعض على حساب الآخرين ويكيل بمكيالين فيغض النظر عن جرائم وفظائع البعض ولا يفتح عينيه ولا يشغل قوانينه وصلاحياته إلاّ ضد جهات معينة ومستهدفة،، هو هيكل قانوني يخالف القوانين ولا يعترف بها ولا علاقة له بالعدالة والانصاف، وإلاّ فمن يستحق المحاكمة والتتبع والملاحقة والاعتقال: الرئيس البشير الذي يدافع عن وطنه من الدخلاء ومؤامرات النهب والتقسيم أم أولمرت وليفني وباراك وبيريز الذين ارتكبوا جرائم إبادة لا شك ولا اختلاف فيها واقعيا وقانونيا؟ والرسالة الموجهة إلى القادة العرب في قمّتهم القادمة بالدوحة جلّية وواضحة. ان السودان هي المرحلة الثانية بعد العراق في برنامج الهيمنة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربي ونهب ثرواته الظاهرة والباطنة، وقد جاءت الهجمة الجديدة على السودان مع تدشين الرئيس البشير لأحد أكبر السدود في إفريقيا الذي سيحوّل هذا البلد العربي إلى مصدر لا ينضب للإنتاج الغذائي وموقع افريقي متميز للصناعات الغذائية، وجاءت كذلك مع التوقيع في الدوحة على اتفاق هام بين أغلب الفصائل والحكومة السودانية بخصوص تهدئة الوضع في دارفور وبداية المعالجة النهائية لهذه الأزمة... والسودان هو الرقم الصعب في استكمال تطويق الوطن العربي من جهة القرن الافريقي وتحقيق السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية ومنها السيطرة بالخصوص على مصادر غنية للمياه والطاقة وعلى المعابر البحرية... والمطلوب من العرب والأفارقة على حدّ السواء هو أن يعتبروا المواجهة بين محكمة الجنايات الدولية والسودان قضيتهم الشخصية وأن يستعلموا أقصى نفوذهم لإبطال مفعول القرار الذي اتخذته المحكمة ضدّ الرئيس البشير حتى ولو كلفهم ذلك الانسحاب من عضوية المحكمة والتشهير بها وب" أوكامبو" الذي يترأسها ويعتبر سيفا مسلطا عليهم اذا لم يفلوه من الآن... فلا يجب أن تمرّ المؤامرات من جديد عبر السودان وإلاّ فإنّها ستتواصل وتستمر ويكون لها على الوطن العربي مفعول قطع "الدومينو" التي إذا سقط أولها لن يسلم آخرها من السقوط... ان سقوط السودان في هذا الفخ سيكون بوابة الفتن والحروب الاهلية ولا يمكن أن يقبل العرب بأن تتحول احدى دولهم الهامة الى رواندا جديدة أو صومالا اخر أو كونغو جديدة .. ويبقى على القمة العربية المنتظرة أيضا ان تواجه الوضع الفلسطيني بكلّ مسؤولية وجدّية ذلك أنّ أي تعثر للمصالحة سيعطل مسار التهدئة في غزّة والأرض المحتلة وسيعطي فرصة جديدة ومجالا زمنيا أطول لإسرائيل لتواصل تنفيذ برنامجها الاستيطاني التوسعي وتهويد القدس وتهجير سكانها العرب ولتبرر في عهد ناتنياهو رفضها لخطط السلام المطروحة والتي تدعو الى حل الدولتين، وستتواصل في ظل هذه المعوقات معاناة سكان غزّة الذين مازالوا يعيشون في وضع كارثي إلى حدّ الآن... إلى جانب ذلك هناك مخاطر كثيرة يعرفها أهل القرار تتهدّد الوجود والأمن العربيين، وهي مخاطر جدّية تقترب أكثر فأكثر من أهدافها ولا بدّ إزاء ذلك من وحدة الصف العربي لمواجهتها ولإيقاف زحفها حتى لا تتحوّل إلى صراعات ومواجهات مباشرة أو بالوكالة هنا وهناك... ولا شك انه في خضمّ هذه التحديات التي يتعيّن معالجتها بالسرعة اللازمة لا بدّ مع الحزم من قراءة متأنية للواقع العربي مما يتطلب المحافظة على علاقات طيبة مع الجميع والمساهمة الفعالة في تكريس أوضاع إقليمية يسودها الانسجام والتعاون، والعمل على إتخاذ القرارات التي تنسجم مع المصالح العربية وتخدمها وتمنع الانقسامات التي تهدّد هذا البلد أو ذاك والتي تتواصل بشأنها المؤامرات والدسائس من الأعداء والمتربصين... وقد حان الوقت للمصالحة بين العرب أولا وبينهم وبين الذين يشاركونهم المسؤولية في إستقرار المنطقة وأمنها بحكم الجوار والروابط التاريخية وفي مقدمتهم تركيا وإيران، ولهذا فإن الأفضل لسلامة الموقف العربي وصلابته عدم اتخاذ أي إجراء بالقطيعة مع الدولتين الجارتين مهما كانت الأسباب والمسببات والتهديدات والمواقف غير المحسوبة، ومهما كانت علاقة كل منهما بأطراف إقليمية أو دولية قد تكون غير صديقة أو منحازة لأعداء الأمة العربية... فقوة الموقف العربي وخدمة المصالح العربية تكمن في البحث عن الحلول بالمواجهة والحوار والتعاطي الديبلوماسي والقانوني مع الأطراف التي تؤثر مواقعها أو مواقفها أو تصرفاتها في الأوضاع العربية عامّة، أمّا القطيعة فهي تعطي الفرصة لتكليس المواقف والإصرار على الخطإ وإرتفاع درجة توتر العلاقات وتعمّق الخلافات، لذلك فلا خيار سوى التواصل مع الآخرين حتى في ظلّ الأزمات ووجود الخلافات وتعارض المصالح وتصادم السياسات... ومع ذلك يتعيّن السعي إلى تحقيق التوازنات المطلوبة بين العرب وجيرانهم سواء إسرائيل - غير الصديقة-أو الأصدقاء مثل تركيا وإيران، وهذا عمل أصبح اليوم شديد الأهمية بعد عمليات الإختراق التي حصلت على الساحة العربية من الغرب ومن الشرق .... ان تعقيدات الأوضاع في المنطقة العربية خاصّة بإضافة الأزمة السودانية الحالية تتطلّب تغييرا جذريا في مستوى القرار العربي والموقف العربي، ولعل الحركية الديبلوماسية التي تشهدها المنطقة حاليا تأتي في سياق أو تحت تأثير التعقيدات التي من بينها بالخصوص الصراعات المتولدة عن أزمة الشرق الأوسط والتي أثرت في مجرى القضية الفلسطينية ومآلها ووسائل حلها، ومن تلك الصراعات الجديدة بالخصوص، التوتّر ذي الطابع الديني والمذهبي، ومحاولات انشقاق بعض الأقليات في العراق والسودان وغيرها سواء على أساس ديني أو عرقي، وبروز خلافات حادة بين المعتدلين أنصار التفاوض والحوار والمتشددين الداعين إلى المقاومة كسبيل وحيد للتعامل مع إسرائيل... هذه الصراعات هي التي تهدّد اليوم الوطن العربي بالانقسام والتشتت وتفتح الأبواب مشرعة للتدخلات الأجنبية وفرض التغييرات بالقوة مثلما حصل بالأمس في العراق وغزّة واليوم في السودان، وهو ما يجب على القمة العربية في الدوحة بصفة مستعجلة وكلّ القمم العربية القادمة مواجهته في أجواء من التفاهم وبتحمّل المسؤولية التاريخية التي أصبحت ثقيلة على كاهل القادة والحكومات العربية أكثر من أي وقت مضى... اليوم يمكن القول أنّ العمل العربي المشترك مهدّد جدّيا بالفشل والتفكّك وأنّ إنقاذه يتطلّب كثيرا من الشجاعة والتعامل مع هذا الواقع العصيب بكل ما تتطلبه المصلحة المشتركة من تضحيات على أساس أنّ هناك أولويات لا تقبل الجدل وغير قابلة لكي تكون محلّ خلاف... لكّن المشكلة تبقى في تحديد تلك الأولويات والاتفاق حولها؟؟ فهل ينجح العرب في ما فشلوا في تحقيقه على مدى أكثر من ستة عقود من الزمن؟؟؟؟؟ --------------- هذا المقال ينشر في نفس اليوم بجريدتي الصباح الغراء والمشرق والمغرب الصادرة بمدينة مونريال الكندية