قد يكون عنوان هذا المقال مستوحى من فيلم مصري من إخراج الأسطورة المصرية يوسف شاهين، ولكنه قد يعكس مضمونا أكثر مما احتواه الفيلم، الذي غاص في مظاهر الفساد الذي استشرى في المجتمع المصري وكان بطله ضابط صغير بالأمن روع منطقة برمتها. الفوضى في تونس تجاوزت ذلك "الفساد الصغير" الذي قد يكون المواطن التونسي اعتاد عليه في حياته اليومية من مثال "افرح بيا" و"وينها قهوتي" وغيرها مما درج عليه الشارع التونسي، إلى أن أضحى ذلك الفساد هو العرف المتحكم في المشهد السياسي وحتى أصبحت ملفاته هي المحددة لمعالم المسار السياسي. تلك الملفات التي تظهر تارة ل"تقطع" رأس وزير، أو لتطيح بقيادي، أو ملف آخر يجد طريقه للتسريب الإعلامي أو للقضاء فيكون نصلا حادا على رقاب السياسيين والنقابيين والإعلاميين، أو يكون محورا لابتزاز اعلاميين في "حرب الاصطفاف" التي باتت تشكل خطرا على التجربة الديمقراطية التونسية. حرب ملفات الفساد مثالها في ذلك كحروب مافيا المخدرات في كولومبيا أو المكسيك منذ مطلع التسعينيات، وكان محورها حتى أن تتحالف الجولة مع عصابات أخرى للقضاء على عصابات "تضخمت" فأصبحت دولة داخل الدولة. في مسلسل الذي عرضته شركة "ناتفليكس" الأمريكية حول امبراطور المخدرات "آل تشابو" يظهر في صورة مستشار الأمن القومي للرئيس المكسيكي مشرفا على اجتماع لزعماء كارتيلات المخدرات، ويعين "آل تشابو" زعيما لكل هذه الكارتيلات، وليقول "الدولة هي التي تتحكم في هذه التجارة". هذا المسلسل المستوحى من قصة حقيقية يمثل مدى تحكم المافيا في العملية السياسية للمكسيك وتداخلها، حتى أن نفس المافيات كانت تمول المرشحين في الانتخابات المكسيكية مقابل حفاظ الأخيرة على مصالحها. في تونس قد يكون نفس السيناريو متكررا لكن بطريقة أخرى تعكس "الفوضى" المستشرية في المجتمع السياسي والتي القت بظلالها على المجتمع الحقيقي.. الشعب صاحب السلطة الأصلية، حيث يشير رئيس هيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب في تصريحات إعلامية إلى أن لوبيات الفساد مازالت متنفذة في مفاصل الدولة. كلام الطبيب أثبتت الأمطار الطوفانية الأخيرة صحته إلى حد بعيد، خاصة من حيث البنية الأساسية المهترئة بالرغم من أن بعضها لم يكمل الحولين على انشائه، مما خلق "فوضى" ارتسمت في سقوط جسور وانهيار جدران بيوت وانجراف طرقات، ووفاة مواطنين غرقا ونكبة مناطق بكاملها. "هي فوضى" اذن بطلها "الفساد" عمودها المحسوبية، ومسطر سيناريوهاتها سياسيون وأصحاب قرار، يتهافتون على السياسة من باستعمال "ملفاته" للوصول الى غايات أخرى ومنه يتولد الفساد من جديد وبمظاهر أخرى وبتجليات جديدة قد تكون من قبيل صفقات عمومية وقد تتمظهر في شكل ساعات "رولكس" باهضة الثمن، مثلما قد تتجلى في شكل "هدايا" قد تصل الى منازل وشقق فخمة وسيارات فارهة. "فوضى الفساد" يمكن أن تتجلى كذلك في شكل تهرب ضريبي الذي يعتبر العمود الفقري للفساد والذي تبلغ قيمته مليارات الدينارات وعدم تمكن الدولة من محاربته باعتباره ملاصقا للاقتصاد الموازي الذي يشكل أكثر من نصف النشاط الاقتصادي، بالرغم من مناداة الجميع بضرورة محاصرته خاصة وأن الطبقة الوسطى في البلاد أصبحت هي التي تتحمل تبعات تراجع موارد الميزانية بزيادة الضرائب عليها. فبالرغم من مرور 7 سنوات على ثورة 14 جانفي إلا أن كل الحكومات المتعاقبة لم تقدر على محاربة التهرب الجبائي، مما يوحي بوجود علاقات متشابكة بين من يتخذ القرار في الدولة ومع المتهربين من دفع الضرائب، والتي تعتبر في دول أخرى جريمة تعدل الخيانة العظمى باعتبار أن دفع الضرائب مبدأ لا يتجزأ من مبادئ التي تبنى عليها المواطنة التي تقوم عليها الدولة المدنية الحديثة. "هي فوضى" هي التي نتيجة ما آلت اليه البلاد، بسبب معركة الكراسي، بين ابن بيولوجي يريد البحث عن مجد من تحت جلباب والده رئيس الجمهورية، و"ابن مدلل" اوتي به من أجل الحكم باسمه فتمرد عليه، وأراد "قتل الاب" لتحقيق المطمح الشخصي من باب التركيز على جمع شتات الغاضبين من حزب أطلق عليه مؤسس اسم "نداء تونس". معركة انتجت "فوضى" في المشهد البرلماني بين كتل تتعارض لا على برامج بل على مطامح شخصية عنوانها انتخابات 2019، وقودها "المغالبة" وعدم تحمل المسؤولية في استكمال مسار تأسيس أركان الديمقراطية من حيث انشاء المحكمة الدستورية، وتجديد ثلث هيئة الانتخابات ورئيسها، حيث ضاعت هذه الرهانات اللازمة مقابل الالتزام بمعارك غير لازمة قوامها حسابات سياسوية ضيقة تتلخص في التقاطع بين أحلام "ابن مدلل" وحسابات "ابن ضال" تقف معه حركة إسلامية تحاول الحفاظ على موطئ قدم قوي في المشهد التونسي بعد "النكبة" التي مني بها الإسلاميون في المشهد الإقليمي والدولي.