بإعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج الأولية للدور الثاني للرئاسيات طويت عمليا صفحة وسياق الحملات الانتخابية الذي سيطر على المزاج والمناخ العام في البلاد على امتداد الفترة الانتخابية بمراحلها الثلاث أو حتى قبل ذلك بكثير على إعتبار الأوضاع الاستثنائية المخيمة على المشهد السياسي والحزبي منذ ما يزيد عن السنة. لكن المتابع لردود الأفعال منذ عشية يوم الأحد مع بداية تبين ملامح نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية لا يلمس توجها نحو طي صفحة مناخات وسياقات الحملات الانتخابية سواء تعلق الامر بتصريحات بعض السياسيين أو بتفاعلات وانفعالات أنصار الفائزين والمخفقين في المحطة الانتخابية لا سيما الرئاسية منها. تجييش.. تحريض.. وحروب كلامية افتراضية كما لم يهدأ فضاء مواقع التواصل الإجتماعي من الحروب الافتراضية وحملات التشويه والتجييش والتحريض ضد الخصوم السياسيين وضد بعض الفضائيات و"الكرونيكور". ولم "تستكين" بعض المنابر الإعلامية وتخرج من تلك الخطابات المتشنجة ومنطق التعبئة والتخويف الذي كان يفهم إلى حد ما في إطار الإصطفاف وراء هذا المرشح أو ذاك أو بحسن نية وتحت وطأة الغموض والإلتباس الطاغي على كامل المسار. صحيح أن حجم المفاجآت كان صادما للكثيرين وتجاوز كل التوقعات والانتظارات ونتائج صناديق الانتخاب وسلوك الناخب التونسي في الاستحقاق الانتخابي الأخير كانت محيرة وخلطت الأوراق كما قلبت الموازنات وهي تحتاج دون شك إلى وقت للدراسة والتمحيص لفهم دوافعها واستخلاص الدروس منها لأنها تحمل رسائل مباشرة وأخرى مشفرة للسياسيين والأحزاب والإعلاميين ونواب الشعب عنوانها الرئيسي أن الكل بحاجة لمراجعات لتصحيح المسار والخيارات. في المقابل فانه من المهم التأكيد أن البلاد لا تحتمل البقاء طويلا تحت وطأة منطق الحملات الانتخابية والمناكفات والتشويهات والصراعات الضيقة على الأقل لسببين اثنين، أولا لأن الوضع لا يزال هشا وأي انزلاقات قد تؤدي إلى مربع العنف والفوضى وثانيا لأن أولويات تونس اليوم اقتصادية اجتماعية بالأساس وتتطلب الشروع فورا في الإصلاحات وفي الانجاز لتغيير أوضاع التونسيين البائسة. وتكفي هنا الإشارة إلى آخر معطيات تقرير جديد للبنك الدولي تؤكد أن عجز الميزان التجاري للسنة الجارية سيكون في حدود 5,3 بالمائة وأن نسبة ستكون أقل من 2 بالمائة في حين ستبلغ قيمة الدين العمومي 89 بالمائة من الناتج الداخلي الخام مع بداية سنة 2020. تصحيح مفهوم المسار الثوري يلاحظ في خضم تواصل مناخ الحملات الانتخابية بكل تجلياته هذه العودة القوية للحديث عن لحظات التأسيس الأولى في 2011 باستحضار "النفس الثوري" واستحقاقات ثورة الحرية والكرامة وإن سارع كثيرون إلى استشعار مخاطرها لا سيما بالمقارنة مع بعض المظاهر التى طبعت السنوات الأولى بعض الثورة من خلال استهداف الإعلام وإدانته،إلا أنه لا يجب أن نغفل الجوانب الإجابية من خلال استنهاض مفهوم الثورة لا من أجل الهدم والعودة إلى المربع ذاته بل لتوظيف ذلك الزخم لتصحيح المفاهيم وإعادة بناء مفهوم الثورة، بعيدا عن تصفية الحسابات والشعارات الرنانة، وعبر الإستفادة من تجربة السنوات الأخيرة لتجاوز الخيارات الخاطئة وتكريس مقاربة واقعية عقلانية قوامها منظومة قيم جديدة ورفاه اقتصادي واجتماعي ينخرط في تحقيقها الجميع كل من موقعه. من المهم أيضا أن يتشكل وعي جماعي أن تونس في مفترق طرق وأن التونسيين إنما رغبوا اساسا في التغيير ومعاقبة المقصرين والفاشلين من خلال تصويتهم في الانتخابات على تلك الشاكلة. وإلتقاط رسائل التونسيين تحتاج بداية احترام خيار الأغلبية فتلك أحكام الديمقراطية إن كنا نؤمن بها قولا وممارسة كما تتطلب مراجعات كما أشرنا سلفا. مراجعات مطلوبة وعلى اعتبار أهمية ودور السلطة الرابعة والمخاض الحالي الذي فرض نفسه باكرا في ظل حملات استهداف الإعلام فإن المراجعات مطلوبة في هذا القطاع، لكن قطعا ليس من بوابة الإعتداءات والتحريض على العنف فهي ممارسات مدانة ومرفوضة ويجب التصدي لها جديا، بالانتصار للمهنية والموضوعية وتركيز هياكل التعديل والمراقبة المستقلة والقوية. وفي سياق التوجه نحو تركيز إعلام مهني وموضوعي وحرفي نحن نبحث عن القطع مع جملة من الشوائب تعود إلى حقبة ما قبل الثورة وبعض الممارسات المستجدة في السنوات الأخيرة. فلا نريد تأليه الحاكم وتمجيده أو تقديسه كما لا نريد في المقابل التحامل. ليس المطلوب أيضا المهادنة والتخلي عن الدور الرقابي النقدي الاستقصائي بل نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى النقد البناء واليقظة المستمرة لحراسة المسار من الانحرافات والمنزلقات والابتزازات الخطيرة دون البحث عن تصيد الزلات وأبسط الهفوات لتضخيمها وتوظيفها في غير موضعها. لنقل بكل صراحة أن التعاطي الإعلامي في سنوات الانتقال الديمقراطي لم يكن خاليا من الأخطاء. وعلى سبيل الذكر لم تكن مراقبة آداء رؤساء الجمهورية وتناولها في بعض وسائل الإعلام موضوعيا وحرفيا في الكثير من الأحيان. فالتعاطي الإعلامي مع المنصف المرزوقي،رغم حجم أخطاء الشخص التى أقر بها، لم يكن بريئا خاليا من التحامل والتشويه في بعض وسائل الإعلام كما لم يكن انتقاد الباجي قائد السبسي إعلاميا خاليا من محاولات غض الطرف عن هفوات الرجل وخياراته الخاطئة. واليوم ليس المطلوب لا هذا ولا ذاك. رسائل للحكام الجدد إلى جانب الإعلام يحتاج الحكام الجدد بما فيهم رئيس الجمهورية إلى إلتقاط رئاسل صناديق الإقتراع والإسراع في ترجمة رغبة التونسيين في تغيير أوضاعهم على أرض الواقع. ولعل أولوية الأولويات وأوكد الملفات المطلوب وضعها على عجل على الطاولة هي التصدي للمحتكرين والمضاربين عبر هذا الملف ومن خلاله يمكن إرسال إشارات مهمة فيها وعي بالحاجيات العاجلة للفئات الهشة والمتوسطة لحماية مقدرتهم الشرائية والسيطرة على نار الأسعار لكن في المقابل ستحمل تطمينات بتوفر إرادة حقيقية لمقاومة الفساد والوقوف في وجه أخطبوط المحتكرين والمهربين والمتمعشين على حساب قوة التونسيين ونماء إقتصادهم. سيكون هذا الملف أيضا مدخلا وبداية تفعيل وتطبيق القانون وإرساء علويته على الجميع وعلى قاعدة العدل أساس العمران. وهذه القيم يفتقدها التونسييون في وجدانهم وعقلهم الباطني وإن كانت ممارساتهم مطبعة مع الفساد والفاسدين. وربما يكون تصويتهم لقيس سعيد كرجل قانون يتسم بالنزاهة ونظافة اليد وصادق مؤشرا على أن "التونسي ليس فاسدا بالطبع" بل ربما مسارات وإكراهات صنعت وطبعت هذه الشخصية التونسية لكن قطعا ليست قدره المحتوم. استثمار رمزية رئيس الجمهورية واليوم رمزية رئيس الجمهورية التى لم يفلح تغيير نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني،في استنزافها وتلك القوة الإعتبارية أو الشرعية القوية التى منحها الشعب لقيس سعيد عبر نسب تصويت تجاوزت 72 بالمائة، قد تجعل من رئيس الجمهورية ذلك الملهم أو الموجه وقد تمنحه سلطة معنوية مؤثرة في صفوف شرائح واسعة من المجتمع يجب الانتباه إليها والعمل على استثمارها في اتجاه بناء وعي مجتمعي مواطني ديمقراطي حضاري جديد في الشخصية التونسية وهذه معركة أخرى حان الوقت لخوضها بالتوازي مع معارك أخرى فدون تغيير العقليات ومنظومة القيم لا صلاح لأي مشروع أو خيارات. لن يكون خوض هذه المعارك ومواجهة التحديات أمرا يسيرا أو طريقا معبدة بالورود لكن النجاح ليس مستحيلا إذا ما قدر الجميع على التقاط الرسائل والوعي بضرورة تحول البلاد وفي أقرب وقت إلى حضيرة بناء "شانطي" في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد. فالتونسيون سئموا الصراعات والشيطنة والإسفاف والمعارك الجانبية وهم يتوقون إلى البناء، بناء المؤسسات ودولة القانون والتأسيس لمنظومة قيم وعقلية جديدة، هكذا تبنى الدول وتتقدم الشعوب. منى اليحياوي