ما من شك في أنّ ذاكرة التونسيّين والتونسيّات تحفظ إلى الأبد واحدا مفردا من سلسلة بايات تونس التسعة عشر الذين تعاقبوا على الحكم على امتداد 252 عاما وهذا الأغر هو محمد المنصف الذي اعتلى عرش أجداده مدّة وجيزة من 19 جوان 1942 إلى 14 ماي 1943. لم يسعفه المستعمر بالبقاء ولو عاما كاملا فوق الكرسي الذي لم يكن ينشده ولا ينتظره وهو في سنّ الواحدة والستين إذ أنه من مواليد يوم 04 مارس 1981 أي شهران وأسبوع قبل استتباب أمر الحماية في تونس. هو من القلائل من أفراد العائلة الحسينية – نسبة إلى حسين بن علي مؤسس الدولة في 15 جويلية 1705 – الذين زاولوا تعليمهم بالمدرسة الصادقية وقد كان أشرف إثر توليه شؤون المملكة على افتتاح السنة الدراسية (1942-1943) في رحاب المعلم المتربع فوق الهضاب بالقصبة ولعله من خلال مروره بفصول هذه المنارة منارة التحرير -كما أنّ الزيتونة هي منارة التنوير- ارتوى بشهد الوطنية. ولقد انخرط منذ سنة 1920 في موجة التعاطف مع الحزب الدستوري ثم يشهد له التاريخ أنه هو الذي أقنع والده الناصر باي حين احتدّ الصراع مع قوى الاستعمار يوم 05 أفريل 1922 بالتنازل عن العرش في صورة ما لم تستجب حكومة باريس إلى المطالب الوطنية. قلنا إذن لم يكن ينتظر أن يرتقي إلى سدة الحكم الحسيني ولكن الأمور سارت بقدرة الخالق في ذلك الاتجاه عندما أدركت المنية باي المحال -أي الباي المنتظر- البشير ابن محمد الهادي الباي الرابع عشر الذي تولى الحكم من يوم 11 جوان 1902 إلى يوم 12 ماي 1906 وتقول بعض الروايات أنه سمّم (انظر كتاب Les beys de Tunis للمختار باي الصادر عن دار Serviced سنة 2002). تولى البشير بحكم أنه أكبر الأعضاء سنا في العائلة المالكة منصب باي المحال في عهد أحمد باي الثاني (1929-1942) إلى 26 أفريل 1942 فخلفه المنصف لمدة خمسين يوما إذ أنه خلف مباشرة الباي السابق إثر وفاته يوم 19 جوان 1942 في قصر العبدلية بالمرسى صباح يوم 19 جوان 1942. لقد افتتح الباي الثامن عشر عهده بإلغاء ذلك التقليد المتمثل في تقبيل يد الباي والاكتفاء بالمصافحة ثم سنّ أسلوبا جديدا في التواصل مع شعبه تأسيا بما كان يقوم به زعيم الحزب الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة صاحب طريقة الاتصال المباشر فشرع في زيارة المدن وانطلق من مدينة رادس يوم 15 أوت ثم أريانة يوم 25 فحلق الوادي يوم 3 سبتمبر ثم في منوبة يوم 4 سبتمبر حيث أقسم على الكتاب العزيز "أنه سيسخّر حياته للتضحية بنفسه". ولقد ترجم هذا القسم بسيرته القصيرة في العمر ولكن البليغة في مضمونها فلقد توجه منذ يوم 08 أوت 1942 بمذكرة تحمل 16 طلب وجهها إلى المشيرPétain رئيس الدولة الفرنسية يدعو فيها إلى تونسة الإدارة وإحداث مجلس تشريعي وطني. ولقد كان يدعو إلى جعل الملكية في تونس ملكية دستورية. ثم تعددت مواقفه المتشددة التي تجرّأ على الإصداع بها في وجه ممثل الحماية الأميرال Esteva بل لقد أكثر من استفزازه عندما كان يجتمع مع القياد والخلفاوات في الجهات مذكرا إياهم بأنهم يرجعون إليه بالنظر دون أحد. فدفع هذا الحراك المقيم العام للتفكير في عزل هذا الباي "المشاكس" ولكن الباي المنصف كان قد سبقه بالتهديد بالتنازل عن العرش وذلك يوم 08 سبتمبر 1942 عندما لم تصله الإجابة من حكومة Vichy، ثم تطور الأمر في اتجاه تصاعدي إلى أن وقعت حادثة يوم 13 أكتوبر 1942 عند تقبل الباي تهاني عيد الفطر، فوقّع تلاسن بين الحامي والمحمي فطلب الباي من حكومة فرنسا استجلاب هذا المقيم العام الغاشم وإلا فإنه سيدفع إلى التنازل مثلما هدد به آنفا. وبالطبع لم ترضخ فرنسا لهذا التهديد بل بالعكس فإنّ حكامها أصبحوا يدبرون أمرا يكفيهم "مزاج" هذا الباي الغريب الذي تعدّدت أفعاله المثيرة وطلباته الحثيثة من ذلك مناداته بتمكين التونسيين من المشاركة في المجالس البلدية والمساواة في الأجور بين الموظفين الفرنسيين والتونسيين وإقرار إجبارية التعليم وتأميم المؤسسات ذات المصلحة العمومية، ومن أجل ذلك كلف يوم غرة جانفي 1942 الوطني محمد شنيق بتشكيل حكومة تعمل على تجسيم هذه الرؤيا، وكان من ضمن أعضائها الدكتور محمود الماطري وزيرا للداخلية وعزيز الجلولي وزيرا للأوقاف وصالح فرحات وزيرا للعدل وحمادي بدرة مديرا لديوان الوزير الأوّل. ولعلّ الذي أثار حفيظة المتشددين من أصحاب النفوذ في أوساط الحماية هما أمران: الأوّل هو موقف الحياد الذي انتهجه الباي خلال الحرب بين قوى المحور وقوى الحلف واستنكاره لإقدام طائرة الحلفاء قصف العاصمة بالقنابل. والثاني هو تعاطفه مع أفراد الطائفة اليهودية وحمايتهم من تبعات أوامر Vichy باضطهادهم. ولقد كان منذ اليوم الأوّل لتوليه أشار بكل وضوح أنه باي كل التونسيين على اختلاف عقائدهم. كتب الصديق عدنان الزمرلي العميد السابق لكلية العلوم بتونس ونجل المنعم الصادق الزمرلي مدير تشريفات المنصف باي، - في المجلة الصادقية عدد 54 جوان 2010-:"لقد استدعى المنصف باي يوم مبايعته الأستاذ البير بسيس Albert Bessis الشخصية اليهودية المتميزة للجلوس إلى جانبه"، ويمكن اعتبار هذه الحركة في خانة التحدي لدعاة الإبادة العنصرية. يوم الجمعة 14 ماي 1943 أقدم "الجنيرال Giraud قائد الجيوش الفرنسية" على عزل الباي الذي رفض التنازل لفائدة باي المحال محمد الأمين ونقل في نفس اليوم بالطائرة الحربية إلى مدينة الأغواط في صحراء الجزائر حيث أجبر هناك على التوقيع على وثيقة التنازل يوم 06 جويلية 1943 ثم نقل إلى مدينة تنس على الساحل الجزائري ثم إلى المحطة الأخيرة في مسيرة الباي المخلوع أي مدينة Pau بفرنسا التي مكث فيها من أكتوبر 1945 إلى يوم وفاته في غرة سبتمبر 1948 وتبقى الأسئلة معلقة حول ظروفها. يوم 05 سبتمبر 1948 نقل جثمانه إلى تونس وأعلن الحداد في كامل أرجاء المملكة. يوم 06 سبتمبر 1948 كان يوما مشهودا حسب الرواة – إذ أني لم أشهده وأن ابن الثلاث سنوات- إذ أن جنازة عظيمة انتظمت يومئذ شاركت فيها جموع غفيرة يتقدمهم ممثل الحزب الدستوري الزعيم المنجي سليم. دفن الباي الشهيد بحسب وصيّته على خلاف أسلافه بمقبرة الجلاز بجوار مغارة صاحب الطريقة الشاذلية: أبي الحسن المولود في قرية غمارة بالمغرب سنة 1196م والمتوفى في حميثرة بمصر سنة 1258م. تغمدهما الله بواسع رحمته وأسكنهما فردوس جنانه.