لقد تعودنا على الأمطار الخريفية التي تنزل من السماء وتحدث فياضات متعددة في المدن والقرى وتنقطع بسببها الطرقات عندما يرتفع منسوب المياه في الاودية التي تصب فيها. تذكرت هذه السنة فياضات خريف 1969وكنت وقتها معتمدا على النفيضة التي باتت لأشهر مركزا تتجمع فيه (الهطايا) العائدين من الشمال للجنوب بأحمالهم وَمِمَّا تجمع لهم من فواضل سنابل القمح التي تعودوا علي تلقطها بعد الحصاد بعلم ودراية من أصحابها كل عام قبل الحرث الجديد بمناطق (افريقيا) الغنية. كانت تلك السنة حافلة بالأحداث وأهمها التراجع في سياسة التعاضد وبعد انحباس الأمطار لسنوات اثرت في الفلاحة والزراعة وزادت الطين بلة على تلك السياسة المفروضة بالقوة. تذكرت ذلك العام وانا اتابع ما يجرى في بلدتي طبلبة ورجعت بي الذاكرة لذلك العام الذي انقطعت فيه الطريق الرئيسيّة رقم واحد فيما بين سوسةوالنفيضة وانهيار كل الجسور بما فيها قناطر السكة الحديدة وآخرها كان ذلك الجسر الأثري المشيد منذ قرون الرابط بين سوسة وهرقلة ولم يعد بعدها في الإمكان التحول من الشمال للجنوب او العكس لمدة شعرين الا بواسطة الطائرة للمنستير او جربة او بالأحمرة المقادة بمن يعرف مطبات الخطر ويتجنبها بالقيافة. كما لم تسلم عامها الطريق المؤدية من القيروان للنفيضة اذ جرفتها الأودية وباتت ايامها الجمهورية مقسمة لنحو شهرين تم الاستعانة فيهما بالعسكر ولكن ذلك لم يغن من الامر شيئا وهو ما دعاني وقتها لاستعمال الملعب البلدي بالنفيضة ونصب الخيام فيه وتوزيع الأغطية وما يلزم وبما مدنا به التضامن الوطني الاجتماعي مع كميات مهمة من الدقيق تعهدت مخابز البلدة بطهيه وتوزيعه مجانا على من تقطعت بهم السبل وقضوا تلك المدة بالنفيضة بدون شغب او تشويش يذكر. لم تسلم تلك المدينة الصغيرة من الفيضانات وغمرتها المياه من كل جانب واتذكر ان بعض العائلات القريبة من مسكني الوظيفي التجأوا اليه لأنه مقام على ارتفاع لا يصله الماء. اما الذي خفف علينا عامها هو ذلك المحصول الاستثنائي الذي خلفته تلك الأمطار الطوفانية في محصول الحبوب وزيت الزيتون الذي جاء في ذلك العام والذي تلاه وعدل من خطورة الازمة التي طالت كل القطاع الفلاحي والبنية الاساسية في تونس. كما تذكرت ذلك وانا اكتب فيضانات الأودية المتكررة في ولاية القيروان التي اصبحت واليا عليها في بداية سبعينات القرن الماضي وأدركت حجم الخراب الذي وقع فيها وكم من مرة تحولت للعاصمة لضرورة العمل وتعذر على الرجوع لموقعي فيها بسبب انقطاع الطرقات فجأة والتجائي لوزارة الدفاع كي تسخر لي طائرة عمودية تقلني وحدي وتكرر ذلك لمرات عديدة قبل بناء سد سيدي سعد على وادي زرود او سد الهوارب على وادي مرق الليل أو الترفيع في الطريق المؤدية من القيروان للنفيضة في مستوى المتبسطة. اما في العاصمة فقد تكررت الفيضانات فيها كل خريف تقريبا وأدت الى وفيات في بعض الأحيان بسبب البناء في مجاري الأودية وكثرة تجاوز المثال المديري وقلة العناية بالمجاري في وقتها، وبجهرها بانتظام وزاد عليها تأخير الانتخابات البلدية لسنوات عدة. لقد جرني الحديث عن ذلك كله لما رابت الصور الحية تنقل بالوسائل الافتراضية عما حصل ويحصل هذه الايام بطبلبة التي قليلا ما تعرضت سابقا للفيضانات لأنها مرتفعة عن البحر نسبيا ومقامة على دهاليز متعددة كان يستخرج منها الكذال لعقود وقرون سابقة وأصبحت كفيلة بابتلاع كل المياه الزائدة مهما كثرت وعمت في انهج المدينة. وللتذكير لم تكن طبلبة مجهزة بقنوات الصرف قبل ثمانينات القرن الماضي وكان السكان يعتمدون عادة على حفر الآبار لتجميع المياه المستعملة فيها كما كان يلتجئ البعض الاخر لسكبها في الطريقات العامة حتى أصبح امام كل مسكّن خندق. ويحق لي ان اكشف ذلك للراي العام لأنني كنت شاركت في إقرار بناء شبكة الخنادق بطبلبة مع رئيس بلديتها الأسبق المكرم قاسم عيارة اذ تحولنا معا الى ديوان التطهير لو بتذكر وحسسنا المسؤول الأول عنه وقتها المهندس القدير الطاهر دلوعة الذي استجاب لنا في الحال وأدرجها في المخطط لبناء القناة الرئيسيّة فيها وكان ذلك فيما بعد ولكنه لم تتبعه مراحل أخرى كانت ضرورية كإقامة محطة تطهير خاصة لمعالجة تلك المياه المتسخة حتى لا تتسبب في افساد البيئة وتتضرر ومنها طبلبة. لقد بت اسمع من حين لأخر بعض الاصوات تنادي وتتشكى من التصنيع وتحمله للمسؤولية ولكن ذلك لا يمكن القبول به أصلا لأنه من طبيعة التطور وعلاجه يكون بالعلم والعزيمة واحترام كراس الشروط الذي يحمي الاجوار والبيئة ولنا في الدول المتقدمة الدليل على ذلك اذ انها بالتزامها بالقانون وتجهيزها للمداخن وازالة الروائح الكريهة بالوسائل الوقائية أمكنها التعايش وباتت لا تؤثر في المدن والمواقع الصناعية ليعايش الجميع في راحة وانسجام. لذا على البلدية والسلطة المحلية والجهوية والقومية وأصحاب المعامل والمصانع الالتزام بالحد الأدنى من سلامة المحيط والبيئة دفعا الإذاية وقد عمت لأننا كثيرا ما نتهاون بالصحة والكرامة البشرية