كتب الطيب صالح رواية تحت عنوان موسم الهجرة الى الشمال وتفنن في وصف مسيرة شاب سوداني سافر الى المملكة المتحدة للدراسة فاستهوته الإقامة فيها والعمل كمعيد بإحدى جامعاتها الشهيرة وتزوج من احدى بناتها ووصف الاحداث التي جرت له فيها ودونها بأسلوب جذاب مشوق وتم نشرها باللغة العربية سنة 1966 ونالت جوائز عربية وترجمت الى لغات عدة اجنبية وما زالت تقرا الى الان بإعجاب ومحبة لأنها تمثل حركة الهجرة من الجنوب للشمال وكانت وقتها نادرة وقليلة في زمن استعمار بلداننا الامنة من الغرب بالحديد والنار والتحكم فينا كأسياد لنهب ثرواتنا بابخس الاثمان بدون يكون لنا الحق في الاعتراض عليهم. لم يكن في نيتي الحديث عن تلك الرواية التي لها أهمية وتذكر الى الان وتقرأ بإعجاب ولكن انقلاب الأدوار هو الذي دفعني الى التذكير بالقرن التاسع عشر زمن احتلال الجزائر ونصب الحماية على تونس لأسباب يطول شرحها ولكنه يستحسن بنا التذكير بما كان يجري بالعكس اذ كانت الهجرة الجماعية تقع من الشمال للجنوب اَي من جنوب أوروبا الى شمال افريقيا وخاصة من الجزر الواقعة في البحر الأبيض المتوسط من صقلية الايطالية وكورسيكا الفرنسية ومالطة المستعمرة البريطانية ومازالت قصاصات الجرائد والصور المنشورة للبواخر المحلة بهم تثبت ذلك بوضوح. تذكرت ذلك بمناسبة زيارة وزير الداخلية الايطالي الذي حل بتونس اخيرا واثار قدومه لغطا بين مرحب ومستنكر وتم الاكتفاء باستقباله من طرف رئيس الجمهورية ونظيره وزير الداخلية بينما اختلف القوم في تفسير عدم لقائه برئيس الحكومة. والمهم ان زيارته تلك الى تونس لم تكن بريئة بالنظر لتوجهاته العنصرية وتصريحاته المعادية للهجرة التي تزعجه وتزعج حزبه اليميني الذي يفضل ان تمنعها دول الجنوب بالوسائل القمعية التي تكرم عليها بتوفيرها بسخاء كي تأكل بلده إيطاليا القسطل بأيادي التونسيين. قلت وانا اتابع التقارير الصحفية وخاصة ما جاء في الندوة الصحفية التي عقدها ذلك الوزير قبل رحيله لبلده، اما كان على لمسؤولين التونسيين ان يذكروه بالهجرة الجماعية للصقليين في القرن الماضي وقد جاءوا الى تونس بالبواخر أكداسا مكدسة لما ضاقت الحياة عليهم ببلدهم إيطاليا التي باتت تتضايق من المهاجرين الذين ألجأتهم ظروفهم القاسية بسبب سياسة بلدان أوروبا المغلقة عليهم. لم تكن تونس وقتها تتحكم في شؤونها اذ بسطت فرنسا حمايتها عليها بالقوة وباتت تتحكم فيها وبذلك سهلت على هؤلاء الذين هاجروا من الشمال للجنوب وخاصة من الاطاليين ويسرت لهم الدخول بسهولة الى تونس للإقامة والاستقرار في أحسن الظروف فأحدثوا لهم أحياء خاصة بهم في المدن الكبرى باتت تسمى الى الان بحي صقلية الصغرى ونهج المالطيين ونهج كورسيكا. لقد استقبلتهم تونس وقتها واندمجوا فيها واشتغل اغلبهم بالأعمال اليدوية البسيطة في البناء والميكانيك وسياقة السيارات التي يملكها أثرياء القوم من التونسيين. انا لست ممن يشجع على الهجرة السرية التي بات ضحاياها يعدون بالألاف واكل البحر منهم الكثير وتبقى دماؤهم معلقة في رقاب الاروبيين الذين الجأوهم لتلك الطرق اليائسة البدائية لما أغلقوا في وجوههم كل أبواب أوروبا وفرضوا عليهم التأشيرة المذلة التي باتت تمنح بشروط تعجيزية. لقد ألجأ هؤلاء للمغامرة بأروحهم التي باتت رخيصة امام الدعاية التي تروج عن تلك الجنة الموعودة التي باتت عليهم عصية وبعدما استفذت أوروبا خيرات بلدانهم واستعملت اباءهم واجدادهم في حروبها التي لم تكن تعنيهم ثم استعملت ابناءهم في إعادة بناء ما حطمته الحرب العالمية الثانية التي خلفت لهم سواقط الحرب والأرامل ولم يجدوا غيرهم من يقدر عليها. هكذا تصرفت أوروبا الديمقراطية بعدما استوفت حاجتها من بلدانهم واستغلتها لسنين وجندت القادرين منهم في حروبها الكثيرة والتي لم تكن تعنيها. هل نسيت أوروبا المتحدة والمغلقة دوننا كل ذلك مثلما نسينا نحن المغفلون وأرسلنا لهم في ستينات وسبعينات القرن الماضي الالاف من شبابنا المتقد نشاطا وحيوية لإعادة بناء ما حطمته الحرب العالمية الثانية لما كانوا وقتها في حاجة لمن يبنيها. لم يكتف الغرب بتفقيرنا ماديا بل اخذ يستنزفنا باستقطاب كفاءتنا العليا من شبابنا ويغريهم بالأجور المرتفعة ويسد الباب على ضعفاء الحال ويحتقرهم امعانا في العنصرية والأنانية التي ظهرت في اليمين المتطرف الذي أخذ في الصعود في الانتخابات الاخيرة. ويؤسفني ذلك كثيرا وارى نفسي مضطرا لابنه المسؤولين للحالة التي أصبحنا عليها وذلك بفتح حدودنا للاربيين بدون شروط والانخراط في مخططاته الجهنمية المجحفة والغير عادلة التي جلبت لنا الفقر والمهانة والدمار الشمل في العراق وليبيا وسوريا واليمن أخيرا، وها نحن مازلنا نقبل بدور الشرطي الذي يحميهم من الهجرة التي باتوا يتهموننا بها وينسون انهم كانوا السبب فيها. كل ذلك لأجل عيون أوروبا المتحدة التي لم تحفظ لنا ودا ورأيناها كيف تصرفت بعد سقوط حائط برلين وانخراط بلدان أوروبا الشرقية في المجموعة الاوربية وقد فضلتها علينا وفتحت لها حدودها واستقبلت ابناءها بالأحضان ونسيت ما فعلته فينا. لذا فإنني انصح الحكومة إذا لزم الامر بعدم الوقوع في هذه المصيبة الجديدة والاشارة على دول شمال المتوسط ان ارادوا إقامة جدار يحميهم اقتداء بما فعله رئيس الولاياتالمتحدة ترنب مع المكسيك او ما فعلته اسرائيل مع الفلسطينيين.