قرات هذه الايام كتاب *سيرة حياة* للسفير محمد الحبيب نويرة الذي صدره اخيرا في أكثر من 300 صفحة دون الفهارس والمراجع وقصاصات الجرائد، وجدته مهما ومفيدا لإثراء تاريخ الحركة الوطنية والرجوع بالقارئ لسنوات الجمر التي عاشها كاتبه مع اشقائه وبعض المناضلين الذين احتك بهم منذ الصغر بحكم موقعه في عائلة دستورية تربت على الوطنية والتمسك بجذورها العربية الاسلامية. لقد نبه الكاتب في مقدمة الكتاب القرّاء بانه اعادة لما كان نشره سابقا تحت عنوان * ذكريات عصفت بي *ومنذ سنة 1992، ولكنني وجدته أكثر شمولا ودقة في وصف تلك الفترة المفصلية وقد بدأها من سنة 1930 لما أصبح مدركا بالكاد وزادت تداول الاحداث الدرامية التي جرت بالمنستير، وكان لحديث اشقائه الذين انخرطوا فيها وتعرضوا للملاحقات والسجون وقعا عليه. لقد اعجبني في ذلك الكتاب وصفة للحياة المعيشية والاجتماعية التي كانت تسود مدينة المنستير وتضامن السكان فيها واعتمادهم على الكد والجد لمجابهة متطلبات الحياة الصعبة وقد تغلبوا عليها بدون اتكال على السلطة خلافا لما بات عليه الحال لدى أكثر التونسيين؟ ويختلف هذا الكتاب عن غيره حسب تقديري لأني وجدت فيه شهادات حية وقيمة لأشقائه الطاهر ومحسن والبشير وقد إستكتبهم الكاتب شخصيا وزاد عليهم شهادة المرحوم محمد بسباس وقد اكتشفت فيها ما كان ينقصني عن ذلك المناضل الاستثنائي. كان الكاتب يحكي في ذلك الكتاب تاريخ تونس المناضلة والمنستير خاصة وعلاقة السكان ببعضهم الى درجة انني وجدت نفسي في ذلك الكتاب بدون ان اشعر وانا من مواليد طبلبة القريبة منها. لقد ولد صاحبنا وتربي في عائلة محافظة في كنف الستر والكفاف، وحفظ ما تيسر من القران الكريم بالتوازي مع الانخراط في دروس المدرسة القرآنية الهداية وتوفي والده وتركه صغيرا واجبر على تحمل مسؤولية العائلة في غياب اشقائه وكان البعض منهم وقتها في سحون الاستعمار بينما كان الآخرون يدرسون ومنهم من كان بفرنسا، لقد تأقلم وتعود على تلك الحياة الصعبة وأقتدى بأشقائه وناله ما نالهم من التعب والإيقاف ودخول السجون، ولكن ذلك لم يمنعه من التفوق في دراسته في كل المراحل وتخطى السنوات الصعبة وانخرط في التعليم الزيتوني مباشرة من السنة الرابعة فيه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية التي تحميه من الخدمة العسكرية. ذلك هو السيد محمد الحبيب نويرة الذي كنت اسمع به في بداية أيامي في الزيتونة لما كان حركيا ونشيطا في منظمة صوت الطالب الزيتوني واحد الباعثين لها في نهاية أربعينيات القرن الماضي. لقد وجدت ما كان ينقصني من معلومات عن تلك المنظمة والخلاف الذي كان لها مع الحزب الحر الدستوري. لقد كان له ولأمثاله المخلصين الفضل في اصلاح التعليم الزيتوني الذي قاسى خرجوه من الضيم والتهميش وتجاهل السلطة الاستعمارية وكيد الكائدين ممن إنبتوا عن جذورهم التونسية. انه كان من الاساتذة العائدين من جامعة القاهرة بالإجازة ودرس بتلك الصفة في الزيتونة مثل امثاله ممن تخرجوا من جامعات المشرق العربي ومن الجامعات الغربية، وطعموا بذلك التعليم الزيتوني بعدما تطورت برامجه وأمكنة الدراسة بفضل كفاح ابنائه من التلامذة وسخاء التونسيين، وتم افتتاح الحي الزيتوني وتخصيص معهد ابن عبد الله للشعبة العصرية وتشييد كلية ابن خلدون الثانوية التي بات نواة للجامعة التونسية. تذكرت كتابه *ذكريات عصفت بي* الذي نشره بعد انتهاء مهامه الديبلوماسية التي مثل فيها تونس كوزير مفوض وسفير فوق العادة أحسن تمثيل في عدد من بلدان المشرق العربي وبرز فيها بأخلاقه وسعة معلوماته المتينة. واتذكر انه جاء الى القيروان وكنت وال عليها برفقة السلطان قابوس عند زيارته لتونس بصفته سفيرا لتونس في تلك السلطنة ولي معه عدة صور تذكارية اثبت منها في كتابه *ذكريات عصفت بي* ما تيسر وأهداني نسخة منه، وما زلت احتفظ بها في مكتبتي الشخصية. ولكنني وجدت في كتابه هذا نكهة استثنائه ازددت بقراءته معرفة بقيمة كاتبه ذلك الرجل الاستثنائي الذي جمع بين العلم والكفاح وارتياده لسجون الاستعمار مثل اشقائه الأربعة: الهادي والطاهر ومحسن والبشير كل ذلك لم يؤثر فيه ولم ينل مقابلا عليه. لذلك وجدت نفسي مدفوعا للتعليق عليه بهذه الأسطر القليلة التي خرجت بها بعد قراءتي للكتاب ورايته من الواجب عليً، عليً. ومما اثار انتباهي اختاره لعنون كتابه وقد استوحاه من كتاب قديم للكاتب المصري ابراهيم عبد القادر المازني وجده صدفة في مكان تباع فيه الكتب القديمة بشارع الحبيب ثامر بالعاصمة التونسية فاشتراه، وبقراءته عادت به الذاكرة للحركة الأدبية المصرية ومجلة الرسالة الجديدة التي كنت مثله من قرائها المغرمين ولم أكن أفوت وقتها اَي عدد يصل الى تونس. اما المحتوى فانه أعادني لطفولتي وشبابي ولو انني لم أكن مثله من الحركيين البارزين في الحياة السياسية ولكنني يمكن ان أكون من العصاميين. لقد التحقت بالتعليم الزيتوني مثله بعد اتمامي للتعليم الابتدائي بمدرسة الهداية القرآنية بطبلبة وتحصلت على الشهادة الابتدائية في جوان1951 ودخلت مباشرة للسنة الثانية من التعليم الزيتوني بعد امتحان اجريته ونجحت فيه. ولكن تلك فترة كانت كلها إضرابات واضطرابات بعد فشل مفوضات الحكم الذاتي ودخول الحزب الدستوري في المرحلة الاخيرة من المقاومة التي حجرت فيها فرنسا كل الحركات السياسية والنقابية وحتى الجمعياتية. لقد امتحنت عائلة نويرة كلها في زمن الكفاح وصادف ان كان الابناء الخمسة من الذكور في سجون الاستعمار الفرنسي ولم يفلت من تلك العائلة الا شقيقتهم الوحيدة التي بقيت تؤنس والدتهم الصبورة والتي لم تضعف او تستعطف احدا او تقلل من عزيمة ابنائها الخمسة حتى في زمن ابعاد ابنها الهادي الى حصن سان نيكولا، واتصور ان ذلك الموقف منها زادهم إصرارا وايمانا بالقضية ولم يستسلموا أو يضعفوا ابدا امام الظالمين. اما فيما يخص صاحب الكتاب الذي أتصور انه لم يجد المكان المناسب لنضاله ولا لمستواه العلمي لأنه كان زيتونيا وزادته الزحمة من تعدد المناضلين في عائلته الصغيرة، فعوض ذلك كله بالكفاءة والاستقامة والتعفف ونال إعجاب الجميع ومنهم كاتب هذه الأسطر القليلة. لذلك وجدت نفسي مشدودا الى كل المراحل التي دونها كاتبه بدقة وامانة وتوسع فيها باستنطاق بعض الشخصيات الفاعلة في تلك الفترة ومنهم اشقائه محسن والطاهر والبشير رحمة الله عليهم وزاد عليهم بشهادة المرحوم محمد بسباس التي شدتني كثيرا لما فيها من الأسرار التي بقيت عليَ مخفية. لقد ترددت في التعليق على هذا الكتاب وخشيت انني لم أكن على قدر المهمة لأني لست مؤهلا او متعودا على التعليق على الكتب ولها مختصيها، ولكني منيت نفسي بان ما كتبته سيدخل السرور على كاتبه ويذكر الصادقين بان استقلال تونس لم يكن يسيرا. وانني بالمناسبة أهنئ الصديق محمد الحبيب نوبره على هذا الإنجاز الذي سيثري المكتبة التونسية وينفض الغبار عن بعض المناضلين الصادقين. وفي النهاية اتمنى ان يكون الاستاذ محمد الحبيب نويرة متسامحا معي فيما توصلت اليه وقد كتبته تخليصا لذمتي إزاءه. وانصحكم بقراءة الكتاب لتكتشفوا صدق ما اقول.