المسلاة ، كما هو معروف ، هي رواية هزلية مضحكة تتناول نقد عيوب المجتمع بعرض ما يماثلها بغية تهذيب السلوك بالترفيه والضحك. لكن ، لئن جرت العادة وأراد المنطق والمعقول ، أن يشاهد المرء مسلاة واحدة في وقت واحد ، فكاتب هذه الثرثرة يشاهد ويتابع منذ سنوات مسلاتين في آن واحد. إحداهما في شمال إفريقيا والثانية في جنوب أوربا ، وكلا البلدين حيث تعرض المسلاة مشرف على البحر الأبيض المتوسط وكان ، ولا يزال ، الرباط والتعامل بينهما وثيقا مستمرّا ، دون أن يكون لهذا الترابط وبعض التاريخ المشترك أية صلة بعرض "المهزلتين" متشابهتين وفي نفس المدّة . هذا رأيي وحكمي على الأقل ، فالصدف وحدها هي التي أتت بهذا التشابه والتقارب ، ولو أن المعروف هو أن لا دور للصدفة في السياسة. نعم ، التمثيليتان الهزليتان المؤلمتان ، المحزنتان ، موضوعهما سياسي بحت ، وسببه الديمقراطية. هذا النظام الذي يتباهى به الجميع ناسين أو متناسين أنه ، ككل عمل بشريّ ، يحتاج باستمرار التحسين والتطوير والتعديل ، وأنه إلى يوم الناس هذا لم يُتَّفق على تعريفه ، وما ذلك إلا بسبب ما ذكرته من استمرارية وتغييرات ، كثيرا ما تُدْخل عليه دون المساس طبعا ، بثوابت مثل المساواة في معايير حقوق الإنسان وحرية التعبير، وحرية الصحافة ، والمساواة أمام القانون ، والانتخابات الحرّة ، وهذا بيت القصيد. إن النظام الديمقراطي الأكثر شيوعا هو ذو الانتخابات النيابية ، وهذه تأتي عن طريق أحزاب يراها هانس كالسن Hans Kelsen ضرورية حتى أنه قال " لا ديمقراطية بلا أحزاب". رأي باطل في نظري ، وما المسلاتان اللتان ذكرت ، سوى تأكيد لمضار الأحزاب ، لا في حدّ ذاتها ، فهي كما يعرف الخاص والعام تساهم بقسط وافر في تنظيم المجتمعات ، بشرط أن تحترم واجبها ودورها ، خاصّة منه أنها تمثل مشتركيها والمنتسين إليها ، وتعمل على تنفيذ رغباتهم وحاجاتهم ، لا أنها آمرة عليهم تقرّر وتفرض. سبق أني كتبت عن دكتاتورية الأحزاب ، وعن عيب أو سوء نظام الحزبين لضياع الحرية الحقة فيه ، وتشويه الديمقراطية السليمة. شعرت الشعوب بالعيوب وسوء التصرّف ، من لدن حزبين يقبعان على الحكم ، فيتحوّل النظام إلى دكتاتورية مقنّعة يدها مخفية في قفاز من حرير. فها هي الشعوب ، بما تبقي لها من حريّة عبر قانون انتخابات يزكّي الأحزاب القوية ، على حساب الصغيرة الضعيفة ، قد حطمت جدار الاحتكار، فانعدمت الأغلبية المطلقة ، لأيّ حزب ، فتعدّدت الأحزاب بأغلبيات متفاوتة، تجبر على الحكم الجماعي باشتراك أكثر من حزب في التشكيلات الحاكمة ، وإن تعذرت المشاركة ، أُخضعت الحكومة ذات اللون الواحد ، لوجوب الحصول على أغلبية ، لم تعد تمتلكها ، فتنتظر تزكية ومباركة برامجها ومقرّراتها من مجلس نواب صوتها فيه محدود. شاهدنا ذلك منذ بداية هذه السّنة تقريبا ، في بلدان عدّة ، ذات ماض نيابيّ ديمقراطي قديم ، ومؤخرا في البلدين اللذين يتحفاننا حاليا بالمسلاة الأوربية والملهاة الإفريقية ، أي مسلاة إسبانيا وملهاة تونس. المنطق يقول ، والبراءة والنزاهة في الحكم أيضا ، أنه بغياب الأغلبية المطلقة التي إن تحقّقت وجب عليها ، بحكم الديمقراطية ، احترام حقوق الأقلية وإدماج مقترحاتها في مختلف ما يُقرَّر وينجز، بينما انعدام تلك الأغلبية يفرض الجلوس الجماعي والتحاور العقلاني ، فالاتفاق على برامج ومقرّرات تستجيب لاقتراحات وميولات الجميع – بقدر الإمكان – ولفائدة الكلّ أي الشعب والبلد بأكمله. هذا لعمري إذا كانت الأمور كما يجب أن تكون ، أي أنّ كلّ حزب هو في نهاية الأمر وسيلة لا غاية ، وسيط يمثل مجموعة معينة من المواطنين ، اتحدت أفكارها وحاجياتها ومراميها ، يسعى نيابة عن تلك المجموعة لتحقيق ما تطمح إليه. لكن ، ما نشاهده في المسرحيتين الهزليتين هو أن كلّ حزب يتصرّف تصرّف السيد ذي السلطة المطلقة ، ويدّعي أنه يعمل لفائدة البلاد والشعب. أمام هذه المشاهد البعيدة عن الواقع ، المجسّمة صراعا عنيفا مستمرا دائما بين الأحزاب ، كي لا اقول بين قادة تلك الأحزاب ، في منحى عمّا ينتظره منهم الناخبون المتمرّغون – بعضهم أو كثير منهم – في شقاء حياة يكاد اسمها يدلّ على نقيضه. هنا يبرز السؤال الأساسي ، سؤال صعبة الإجابة عنه لأن فيها الحلّ أوبعضه. من ينتخب المواطن عند الإدلاء بصوته ؟ هل يصوّت لشخص أو أشخاص أم هو يصوّت لحزب برُمّته ؟ سبق لي التعرّض لقائمات المرشحين والمرشحات ، وعدم معرفة الناخب إياهم ، وإن هو عرف بعض البارزين ، فمعرفته مقتصرة على الاسم والصورة ، وبعض الوعود تُقدَّم معسولة بلباقة وحسن تعبير. هل يعرف الناخب صدق ونزاهة وطهارة وإخلاص المرشح أو المرشحة ؟ طبعا لا يعرف إلا ما قيل ويُقال ومعظمه ثمرة دعاية وإشهار، لا يُحاسب عليهما من يأتيهما ، ولا يستفيد منهما المواطن الناخب ولا الوطن المتحدّث باسمه. الكلّ يعلم أنّ الانتخابات هي الآلية الأهمّ من حيث التاثير على طريقة حكم البلاد ، وما يتبعها من مخططات ، وبرامج تنمية ونهوض وتطوّر، في كلّ مجالات حياة الجماهير ورفاهيتها نفسانيا وفكريا وعلميا واقتصاديا وثقافيا وفنيا ، لذا وجب لزاما مشاركة الشعب ، مشاركة ملموسة فعالة ضمنتها له الديمقراطية ، فعلى كلّ بلد إيجاد أفضل طريقة تناسبه لتحقيق وتطبيق تلك المشاركة ، غير مكتفية فيها على الانتخابات ونتائجها. تحقيق كلّ هذا هو مسؤولية الجميع ، ودور المواطن فيه كبير ، أو يجب أن يكون كبيرا ، فعلى المواطن أن يعرف لمن يصوّت ، لأن تصويته هو ميثاق ، هو عهد ثقة وأمان ، هو تسليم الأمور، تسليم الرّقبة حسب التعبير العامي ، بين يدي نائب ، وكيل بتعبيرنا الشائع ، مُسيّر بالنّيابة ، لشؤون الناخب ، سعيا وراء ضمان الحقوق والدفاع عنها ، وتحسين الأحوال ماديا وأدبيا ، والحصول على المزيد من الخدمات والضمانات. كلّ هذا يتعهده النائب الوكيل ، ممثل الناخب ، وإن هو أخلّ بما عهد له به ، فهي خيانة مؤتمن حسب القانون الجنائي ، نظريا على الأقل. نعود هنا أيضا إلى التساؤل: هل النواب واعون بواجبهم تجاه ناخبيهم ، أم هم مؤمنون بأنهم يمثلون أحزابهم ؟ ليس صعبا الجواب عن هذا السؤال ، إذ مشاهد المسلاة والملهاة تكفي للدلالة والتأكيد ، بأنهم يتحرّكون كنواب عن أحزابهم ، فيصرفون طاقاتهم ولباقاتهم وصياحهم في التشاجر والخصام والنزاع مع نظرائهم ، دفاعا ، من كلّ واحد منهم ، عن حزبه ومصالحه ، بفكر تائه في نتاج شجاره ، منصهرا في أرقام نتائج الإنتخابات المقبلة ، وفي تثبيت مقعده بالدورة النيابية القادمة. أما الناخبون ومصالحهم ، والوطن وما هو فيه فلهم الله. فهمت الشعوب فقضت ، بالانتخابات لا غير، على هيمنة الحزبين ، وعلى الأغلبية المطلقة ، وعليها الآن أن تنزل الستار على المسلاة والملهاة بتمثيلية أكثر جدّية ، تجسّم ما تنتظره الجماهير من نوابها ، وعسى أن لا تكون التمثيلية مأساة. هذا ما يؤمّل بكلّ صدق وأمل ، لأنّ ما يكاد يلمس لدى الشعوب ، والتونسي من ضمنها ، نفاد الصبر، والميل إلى التطرّف ، وما يحويه من عدم التعقّل ويجرّه من عنف. رغم الياس وفقدان الحاجة ، لا تزال الشعوب ساعية إلى التغيير الضروري بسلاح التصويت والإقتراع. وصلتني وأنا أحبّر هذه الأفكار والمشاهدات ، نتائج انتخابات بافاريا بألمانيا ، وضياع الأغلبية التي تمتع بها الحزب المسيحي الديمقراطي طوال خمسين سنة ، وحكم بها أغلب الدورات البرلمانية ، وهذا أقل ما يفهم منه ، إنذار صريح للسياسيين ، كي ينتبهوا فيقدّروا عواقب ما يصنعون. نفس الملامح والإنذارات الصامتة تسجل في إسبانيا ، حيث أزيل اليمين بلائحة شجب غريبة في نوعها ، وجاء اليسار ممثلا في قرابة العشر كتل كي تحصل الأغلبية ، لكن رغم اليسارية فكل كتلة تطالب وتساوم وتجذب اللحاف نحوها ، بالأنانية السياسية المعهودة يمينا ويسارا. كيف حال تونس ؟ الجواب عن هذا السؤال يعطيه زجّال ليبيا الغارقة هي الأخرى في خضمّ النزاعات ، وتدخّل الأخوات ، وأطماع الدّول القريبات والبعيدات ، فيقول سيدي قنانة واصفا بما يشبه الصورة إذ يقول: في حالْ يا ناشدْ علينا حالَه * حيّين لاكِنْتي الحيا مذبالَة * حياة القهْرَة * حياة الجمل الذي تكسّر ظهْرَه * واحد خذا السكين وواحد نحْرَه * وواحد خذا الساطور وِادَّنَّالَه * هذه وأيم الحق ، حالة تونس وأوضاعها: فقر يتسرّب بسرعة ، انخفاض مرعب في نسبة الطبقة الوسطى ، بطالة إن لم تزد فهي لم تنقص وتنحصر، أسعار نرتفع فنقص في النفقة والاستهلاك ، تدهور اجتماعي وضياع الهوية ، تغلغل ثقافة المادّة وثقافة المرئيات ، ضعف واختلاط اللغة وفقدان اللسان الدارج ، تبنّي مبادئ ولغة وسائل التواصل ، انفرادية وتشتّت ، هجرة الكفاءات ، وما لم أذكر أكثر وأمرّ، بلا أية بارقة أمل في الأفق. سمعت الألمان يتحسّرون على أيام كنراد آديناور، رغم قلة ما في اليد في أيامه ، ويتحسّر الإسبان على صانعي التحوّل ، الذي أرسى لهم قواعد أربعة عقود من الديمقراطية والإزدهار، فهل سيتحسّر التونسيون على ما انتفضوا ضدّه فأردوه وأزالوه ؟