يعتبر الأديب أبو القاسم محمد كرّو أنّه من خلال معرفته للزعيم الحبيب بورقيبة ومعايشته لأهم فترة حساسة وحرجة عرفتها البلاد التونسية وهي مرحلة الخمسينات من القرن الماضي فإنّه يمكن القول إنّ شخصية بورقيبة كانت شخصية لافتة وقد انفردت بعديد الخصال من أبرزها اعتزازه بنفسه وحبّه الشديد لها فأغنية بورقيبة سيد الأسياد كانت منذ البداية أغنية تتغنّى بمدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكن بورقيبة قد جعلها لنفسه لقد كانت له عقدة نفسية وهي حب الذات. كما كانت له عادة انفرد بها وهي ملازمته لسماع الراديو منذ الصباح الباكر وما سجلته عنه من خلال قربي منه هو أنّه كان لا يحبّ أمرين الأول أنه كان يكره كلّ توجه إسلامي ولا يميل إلى التديّن والأمر الثاني أنه كان لا يحب الانقلابات . أذكر أنه طلب من الوزير الهادي نويرة أن يعدّ له قانونا يحقّق من خلاله المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث فامتنع الهادي نويرة وقال له لا يمكنك ذلك لأن في القرآن آية صريحة تمنعك من ذلك وهي قوله تعالى " وللذكر مثل حظ الأنثيين " فعلّق بورقيبة بلهجته المعروفة " آه .. هذا ورد في القرآن ؟ لقد سدّ علي محمد الطريق " كانت العادة في إحياء ليلة السابع والعشرين من رمضان أن يقع الاحتفال بها في جامع الزيتونة وكانت هذه العادة متوارثة منذ عهد الاستعمار غير أنّ بورقيبة قد حوّل مكان الاحتفال بها من جامع الزيتونة إلى دار الثقافة ابن رشيق قبل أن يقيمها في قصره ببادرة من الشاذلي القليبي لقد كان بورقيبة يحب تغيير كلّ التقاليد. وفي إحدى هذه الاحتفالات اقترح عليه أن تقدم الدكتورة هند شلبي محاضرة فكريّة وكانت امرأة متدينة وملتزمة فجاءت وقدمت محاضرتها وبعد الانتهاء أراد مصافحتها فرفضت وقد كانت أوّل امرأة تمتلك سيارة وتقودها بنفسها. يعود الأستاذ أبو القاسم محمد كرو بعد أن ذكر بعض ما يذكره من علاقة بورقية بالدين إلى مرحلة الاستعمار وذكر أنّه في سنة 1947 هاجر بورقيبة إلى القاهرة بعد أن كان مستهدفا من السلطة الاستعمارية ومعرّضا إلى الاعتقال وفي أثناء غيابه عن البلاد خلا الجو لصالح بن يوسف الذي تزعّم الحركة الوطنية وتفرّغ لإعادة تنظيم إدارة الحزب فكان أن سيطر على كامل البلاد وكسب أنصارا وتأييدا شعبيا قويّا فتمكن من إعادة هيكلة الحزب وقام بتوحيد المنظمات العمالية وجعلها في صفّ المقاومة ودفعها إلى أن تلعب دورا تحرريا إلى جانب دورها في الدفاع عن العمّال من كلّ استغلال تمارسه عليهم سلطات الحماية. وفي نفس هذه السنة صدر قرار تقسيم فلسطين وكان هذا القرار مناسبة لإعلان النصرة والمساندة للشعب الفلسطيني وقد طلبت جمعيّة الإخوان الزيتونيين ، التي كان يترأسها محمد صغير الشابي والد الأستاذ أنس الشابي وقد كنت أنا وقتها كاتبها العام ، من صالح بن يوسف أن يساندها في الاحتجاج عن قرار التقسيم والموافقة على الإضراب وتقرّر الإضراب في تونس العاصمة تضامنا مع الشعب الفلسطيني وضدّ قرار التقسيم وكان ناجحا. غير أنّ الفكرة التي كانت لدى الحزب الدستوري وعند صالح بن يوسف هي أنّه لا يجب أن تنفلت منهم الأمور ويخسر بن يوسف الشعب وتأييده له خاصة وأنّ الروح الدينية كانت عند الناس عالية جدا وكان أغلب الشعب له توجّهات دينية وانتماء إسلامي فما كان منه إلا أن أسرع وقرّر الاجتماع بالزيتونيين وجاء إلى جامع الزيتونة وخطب فيه وهذا يعني أن موقف صالح بن يوسف من القضية الدينية لم يكن مبدئيا وإنّما كان بدافع الخوف من أن تفلت منه الأمور، من أجل ذلك كان يوظف الشعور الديني لتحقيق أهدافه. في هذه الأثناء غادر الزعيم الحبيب بورقيبة إلى القاهرة وهناك لم يكن معروفا في الأوساط السياسية غير أن الذي قام بتقديمه إلى السياسيين وعرفه بهم هو العالم التونسي محمد الخضري حسين الذي قدّم له يد المساعدة وأعانه إعانة كبيرة في هذه الظروف . و تمكن صالح بن يوسف من أن يصبح وزيرا للعدل في حكومة مصطفى الكعاك و كان معروفا عنه قبوله بأقلّ ممّا كان ينادي به بورقيبة حيث دخل للحكومة لكسب الشرعية فقط فبن يوسف لم يكن في البداية يطالب بالاستقلال وإنّما كان يطالب بإصلاحات. بلغ إلى علم بورقيبة أن صالح بن يوسف يسيطر على كامل البلاد وأنّه أصبح الرجل الأوّل في الحزب فقرّر العودة إلى تونس سنة 1949 وبعودته بدأ يظهر الخلاف بين الزعيمين وبمرور الأيام بدأ الخلاف يكبر وتغيّرت أفكار صالح بن يوسف . ومن خلال معايشتي للرجلين فقد تبيّن لي أن مواقف كل واحد منهما أخذت تتطور مع تطور الأحداث وانتهيت إلى قناعة أن بورقيبة وبن وسف يتعاركان على الزعامة الأولى وأن كلّ واحد منهما يحاول تغليف هذا الصراع بالدفاع عن الوطن وقد أكّد لي هذه القناعة الأستاذ جابر عمر وكان رئيس الوفد العراقي الذي حضر مؤتمر صفاقس سنة 1955 والذي حدّثني بعد عودته من المؤتمر بأنّه خرج باستنتاجين : الأول أنّ 90% من الإطارات الحزبية قد مالت إلى الزعيم بورقيبة وأن 10 % فقط كانت خيّرت مساندة بن يوسف . والثاني أنّ المعركة بين بورقيبة وبن يوسف هي معركة أخلاق وأنه من المستحيل أن يتعايش الرجلين معا وأن الذي ليس معه الأخلاق سوف يقتل صاحبه وهذا ما حدث. وينهي الأستاذ محمد كرّو حديث الذكريات عن الزعيمين وعن موقفهما من مختلف القضايا الخلافيّة ويلخّص الجواب عن سؤال لو انتهى الخلاف البورقيبي اليوسفي لفائدة صالح بن يوسف بقوله إنّ صالح بن يوسف على عكس ما يشاع عنه لم يكن يرتاح إلى الزيتونيين وفي هذا الموضوع لم يكن مختلفا عن بورقيبة فالعقليّة واحدة والتكوين هو نفسه. وأمّا في المسألة السياسية فإنّهما لا يختلفان في التمشّي السياسي مع فارق بسيط وهو أنّ بن يوسف لم يكن ليعامل جامع الزيتونة بنفس معاملة بورقيبة بحيث لم يكن ليلغي التعليم الزيتوني ولكان حافظ على التعدّدية في التعليم و وكان من المؤكّد أن لا يغلق الجامع الأعظم وهنا تذكرني حادثة كان وراءها صالح بن يوسف وهي أنّه بعث عزوز الرباعي إلى الشيخ الفاضل بن عاشور وكلّفه بالاعتداء عليه بعد أن أصبح هذا الأخير مقلقا للحزب واعتدى عليه. ومن مواقفه الأخرى أنّه كان في بدايته لا يطالب بالاستقلال و كان يميل إلى الإصلاح في حين كان الزيتونيون يطالبون بالاستقلال. كما كان لا يقدم على إلغاء نظام الملكية وإنما يحافظ على عرش الباي مع إدخال تعديلات علي الحكم.