ربّ صدفة خير من ميعاد ، وأنا أقول ربّ صدفة خير من كتاب أو إنّ الصدفة أمر عُجاب. أتممت مقالي السابق وأرسلته ونظرت إلى الساعة فوجدت وقتا قصيرا يفصلني عن موعد زيارة تؤديها لي زميلة لأساعدها على فهم أمور متعلقة بعالمنا المليئ مشاكل وغموضا ، لأنها تعدّ عملا عمّا يحدث ويجري في بلداننا ، ولا تريد أن تزلّ لسوء فهم أو خطئ تفسير. أخذت كتابا ، عن غير هدى ، ليشغل بالي منتظرا ، فإذا به كتاب عن مدريد الأندلسية أو الأموية أو الإسلامية ، نشره البيت العربي في طبعة جيّدة ، أنيقة ، رفيعة ، ملوّنة صورها ، نصوصه ثلاثة وعشرون باللغتين الإسبانية ، الأصل ، وبالعربية ترجمتها ، أعدّها ثلاثة وعشرون كاتبا مختصّا ، كلّ في مجاله ، وجاءت في مجلّد من الحجم الكبير، مرفوقا بفرعين صغيرين أحدهما يحتوي على النصوص الإسبانية والثاني بالعربية. يقول مدير البيت العربي في مقدّمة الكتاب الذي عنوانه " من مجريط إلى مدريد " وتحت العنوان : مدريد والعرب من القرن التاسع إلى القرن الواحد والعشرين: " إن الأعمال الثلاثة والعشرين المُكوّنة لهذا الكتاب ، والتي هي لمتخصّصين في ميادين مختلفة ، تضمّ أولا المعلومات الأكثر آنية حول مدريد الأندلسيّة ، وهي حقبة من تاريخ مدينتنا غير معروفة بالشكل اللازم – وقليلا ما تعطى القيمة التي تستحقها – إلا من طرف المتخصّصين. ثمّ بعد ذلك ، وباقتحام مجال التاريخ الدقيق في بعض الأحيان ، يتمّ استرجاع بعض المحطّات ، والشخصيات ، والمؤسّسات التي توثق العلاقات الدّقيقة ، لكن المستمرّة ، بين مدريد وما هو عربيّ عبر القرون." فتحت الكتاب لأدخل ما كتب عن الاستعراب الإسباني فكانت المفاجأة والصدفة. المفاجأة تكمن في المعلومة التي لم أنتبه إليها ، رغم أني قرأت الكتاب قراءة دقيقة عند صدوره ، وقبل أن تصدر النسخة العربية ، أي سنة 2011. أما الصدفة فهي أن المعلومة تتعلّق بفن الزراعة التي عالجتها في المقال الذي خرج من عندي قبل قليل ولعله لم يكن قد وصل مقصده بعد. تقول صاحبة المقال السيدة مانويلا مارين ، من المجلس الأعلى للبحوث العلميّة " إن الإهتمام بما نسميه اليوم " بالدّراسات العربية " أو الاستعراب ، بدأ يتطوّر في إسبانيا، في العصر الحديث ، في محيط بلاط عاصمة المملكة. وفي مدريد ، مقرّ الملكيّة ، بدأت تظهر محاولات استرجاع الموروث التاريخي ذي الأصل العربي ، بدعم من وزراء مثل كامبومانس ، الذي رعى نشر وترجمة كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي ، وقد نشر الكتاب مع ترجمته سنة 1802... وقد درس كامبومانس نفسه اللغة العربية ، وكما يُوضَّح في وثيقة " الرّقابة " التي تتصدّر هذه الطبعة ، أجريت أمامه المقارنة بين النص والترجمة ، اللذان كان يعتبرهما ، كما يؤكد بعد ذلك بقليل ، مفيدين لفلاحي شبه الجزيرة الإيبيرية ، وخصوصا الأقاليم الجنوبية والجزر المجاورة لها ، كي تحسّن زراعتها ، وتعيد إليها ذلك الإزدهارالذي عرفته أيّام المسلمين." (اسم هذا الوزير مع لقبه الكامل هو بيدرو رودريغاث دي كامبومانس. كان سياسيا من المتنوّرين ، حقوقيا لامعا واقتصاديّا مصلحا. تولّى وزارة المالية سنة 1760 ، في أوّل حكومة إصلاحية في عهد الملك كارلوس الثالث. ولد كامبومانس يوم 1 لوليو 1723 وتوفي يوم 3 فبراير سنة 1802.) ذكرت هذه الصدفة وما حوته من اعتراف بما أتاه الأندلسيون وأنجزوه داخل إطار نهضتهم وتقدّمهم ، وما قدّموا للعلم والحضارة من أفكار ومخترعات ، فذلك يعرفه الكثيرون ، وفي تونس البراهين الكثيرة عنه ، حتى أنه يمكن القول بأنّ ما عرفته تونس من تقدّم سبقت به مثيلاتها ، ما هو إلا ثمرة علم ومعرفة ومهارة الأندلسيين المطرودين ، وحسن استقبالهم وتوفير الأمن والراحة لهم ، فأعطوا ما أمكنهم لأرضهم الجديدة. لكنّي لم أذكرما نقلته عن كتاب " من مجريط إلى مدريد " ، إلا لما أتاني به من تأكيد ، على حسن صنعي في تناول قطاع الفلاحة ، وتحريضي بوجوب الاهتمام به والعناية بالأرض لأنها سياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وحتى وطنيّا ، هي الأساس والعماد ، وهي كالأم لا يمكن إنكارها ولا الاستغناء عنها ، وإلى حضنها يتوق المرء ولو تقدّمت به السنّ ، وبلغ ما بلغ من العلوّ والرّقي. فالواجب والضرورة والحاجة ، كي لا اقول الاحتياج ، كلها تدعو ، بل تفرض ، وجوب وضع ملف الفلاحة على مائدة الدرس والبحث والتخطيط ، لوضع مناهج تدريس ، وبرامج عمل، وحملات دعاية وتكوين ، كي تتوفّر الاستعدادات ، والعقول ، والسواعد ، فتُقبل بإيمان وطواعية على الدرس والتدرّب ، ثمّ العمل بجدّ وتطوّر مستمر، في هذا القطاع الحيوي ألا وهو قطاع الفلاحة الشريف المشرّف ، المتعب المضني ، ضامن الحياة الكريمة ، بعيدا عن الفقر أو الجوع والاحتياج. أشرت ، في الأسطر الماضية ، لحملات الدعاية والتكوين ، وكدت أن أوليها الأسبقية عن الدرس والتخطيط ، لأن الطلبة الذين يؤتى بهم أو يختارون هذا الاختصاص ، يجب أن يعرفوا عن يقين وبإثبات ، أن لا شبه بينهم – إذا تخرّجوا وعملوا – وبين أمثالهم الجالسين أمام المكاتب في الإدارات. فأولائك كان الواحد منهم يسمّى في صفاقس مثلا " خديم حاكم " حتى أنه يمكن القول أن الإدارة الحكومية خلت واقعيا من أيّ صفاقسي إلى منتهى الحرب العالمية الثانية. فالموظفون منهم كانوا في التعليم بأنواعه وفي الإدارات شبه الحرّة ، لكنهم في كلّ عمل ونشاط منتج وأي مهنة من المهن ، يعملون وكثير منهم يتقنون. قدّمت هذا المثال – وغيره كثير- لمعرفتي إياه ، ولأن معظم الشباب يدرس ويتخصّص ، ثمّ يحصر هدفه في الإدارة وما شابهها. أسباب هذا التصرّف ، أو هذه العقلية عديدة متنوّعة ، قد يطول التعرّض إليها بجدّ وإسهاب ، لكن من الواجب حمل الآباء والمدرّسين ، والناشطين في النوادي والجمعيات باختلاف اختصاصاتها ومشاربها ، حملهم على تثقيف الطلبة والشبان عموما ، ثقافة غير التي ملأت أذهانهم ومفاهيمهم ، وليلقنوهم ما تتطلبه الحياة ، الكثيرة التغيّر والتطوّر، وما تفرضه الثورة التقنية أو الرقمية التي غزتنا ، وفرضت علينا السرعة وإبدال الإنسان بالآلة أكثر من قبل ، فنجد عظيم الدروس والعبر في الأمثال الشعبية التي منها ذلك القائل " شاقي ولا محتاج " أو قول الشاعر " وانْصَبْ فإنّ لذيذَ العيش في النَّصَب " ونحن نعرف أن النّصب هو التعب والعمل فهو تعب وإجهاد. إنّ الإعداد النفسي ، وهذا يعرفه المربّون ، هو نصف الدّرس والتعلّم ، وإذا أضيف له الترغيب ، سهل وهان واستُوعب بنشوة وسهولة. ذكرت الترغيب ، ويضاف إليه المقابل ، لأنهما الحافزان المشجعان الدافعان نحو المراد ، لذا قد يكون من المفيد ، تخصيص قطعة أرض يخدمها عدد من الطلبة في مراحل تدرّبهم العملي ، ولهم يعود محصول إنتاجها ، وهكذا يتعوَّدون على العمل الجماعي والتعاون وفوائده ، فيكون ، إلى جانب المردود المادّي ، مقابلا مشجعا يجلب ويغري بالانتساب إلى دراسة الفلاحة وخدمة الأرض. لا أدعي هنا ، ولا أحد من الذين مثلي يكتبون ويقدمون الآراء والاقتراحات يدّعي ، أنه أفضل أو اذكى أو اصلح من ذوي الشأن الذين بيدهم مقاليد الأمور التي نعالجها نحن ، بجرأتنا على الكتابة وتقديم الآراء والحلول. إننا ، أو على الأقل إني ، أعتبر أن الذين رشحوا أنفسهم لخدمة البلاد ، حسب قولهم وتصريحاتهم ، لم يتقدّموا لحمل الثقل ، إلا وهم عارفون بما هم قادمون عليه من مشاكل ومسؤوليات ، ولا أشك أنّ لهم لذلك حلولهم ، حسب برامج ومخططات فعلية ، لا نظرية فحسب ، وإن أخطأت في تقديري وليست الأمور كذلك ، فالأنسب لهم ، وللوطن جميعه ، الإنسحاب فورا من الرّكح وتركه لممثلين آخرين أكثر استعدادا ، لأنه إذا نزل الستار وعقدة الرواية لم تُحلْ ، لا يعرف النتيجة إلا الله. إنّ خدمة الأوطان أساسها التضحية ، والإخلاص ، ونكران الذات ، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة ، وعدم الإنفراد بالرّأي ، والابتعاد عن المؤثرات الخارجية ، والصدق في القول والمثابرة في العمل والإنجاز. فمن فقد هذه الصفات أو بعضها ، لا يحقّ له أن يتكلّم باسم الوطن أو يدّعي خدمته ، لأنه ، طال الزمان أم قصر، ستشع شمس الحقيقة ، وتظهر كلّ نفس بما قدّمت ، فتنال من الشعب ، ولو بعد حين ، ما لها وما عليها. إنّ النصف الأخير من القرن الماضي مليئ زاخر بالأمثلة المبرهنة على ما أقول ، والعاقل من اعتبر بغيره. أما المثل الشعبي فيقول: " صبعين وتلحق الطين ، يا عامي من أعماه الله. مدريد 25-2-2019