ربما لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردغان مخطئا حينما صرح أياما قليلة قبل موعد الانتخابات المحلية التي جرت يوم الأحد 31 مارس المنقضي بأن هذه الانتخابات هي بمثابة الحياة أو الموت لكونه كان يعلم حجم التحدي الذي تمثله هذه المحطة الانتخابية في مواصلة بقاء الحزب في الحكم و الحصول على ثقة متجددة للناخبين وكان يقرأ المشهد السياسي قراءة صحيحة بعد أن كشفت جميع نتائج سبر الآراء تصدر المعارضة التركية نوايا التصويت فكل هذه التخوفات كانت في محلها لتفصح نتائج الانتخابات عن تقدم المعارضة في الكثير من البلديات غير أن المفاجأة الكبرى كانت تراجع حزب العدالة والتنمية في بلدية اسطنبول وأنقرة أهم بلديات تركيا وخسارة المرتبة الأولى فيهما وذلك بعد ربع قرن من الهيمنة . فكيف حصل هذا التراجع لحزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات ؟ وما هي الأسباب والعوامل العميقة التي أهلت المعارضة لافتكاك المرتبة الأولى ؟ قدمت عدة تفسيرات لهزيمة حزب العدالة والتنمية ركزت جميعها على الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه تركيا ما أثر سلبا على عيش المواطنين كان من تداعياته أن حول الناخب التركي وجهته نحو أحزاب المعارضة التي قدمت وعودا بتحسين حال الناس . لكن رغم وجاهة هذا الرأي فإن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذه الخسارة التي مني بها حزب الرئيس اردغان يمكن حصرها في ثلاثة أسباب : السبب الأول له علاقة بتراجع وضع الحريات في تركيا وبموضوع القبضة الحديدية التي استعملها أٍردغان في حكم البلاد خاصة بعد تنقيح الدستور في اتجاه سمح له بالترشح للانتخاب مجددا لمنصب رئاسة الجمهورية ومناخ الحريات الذي خيم على البلاد بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي حصلت في صائفة سنة 2016 وما نتج عنها من حملة واسعة من الاعتقالات في صفوف الكثير من أبناء الشعب وخاصة من أنصار المفكر فتح الله كولن المقيم بأمريكا و الذي يتهمه أردغان بضلوعه في الانقلاب وبأنه هو من كان وراءه فما حصل بعد الإعلان عن فشل محاولة الانقلاب من اعتقالات واسعة طالت الكثير من الكوادر في الأمن والجيش واعتقالات أخرى في صفوف إطارات في الادارة ومؤسسات الدولة قد أعطى الانطباع لدى الشعب التركي بأن نظام الحكم يمارس الاستبداد ويقوم بعملية تصفية عنيفة لخصومه ما أضفى على البلاد مناخا من الخوف و إحساسا بالرهبة من نظام الحكم جعل الناس تغير رأيها في أردغان وحزبه فمسألة الحريات ومحاصرة الصحافة والمعارضة ومحاكمة الكثير من أصحاب الرأي قد أثر سلبا على صورة أردغان وتسببت في تراجع ثقة الناس في حزب العدالة والتنمية. السبب الثاني هو الدور الذي لعبه أنصار فتح الله كولن في تحويل وجهة الكثير من الأصوات نحو المعارضة وهي مسألة في غاية من الأهمية ذلك أن الذي لايعرف عن فتح الله كولن هو أن الفضل يعود له في عودة الإسلام السياسي في تركيا فالعمل الكبير الذي قام به طيلة سنوات في ظل حكومات علمانية متعاقبة كانت تحكم تركيا كان له الأثر الواضح في العودة الكبيرة إلى الإسلام فما قام به من تثقيف وتعليم وتربية ونشر للفكر الاسلامي المعاصر بفضل المدارس الكثيرة التي انشأها ونشرها في كامل تركيا كان له الأثر العميق في بروز جيل مثقف ومتعلم من أبناء الشعب التركي وطبقة اجتماعية منحازة للتوجهات الإسلامية مثلت الحاضنة والقاعدة الصلبة التي وجدها أردغان فيما بعد جاهزة ليخوض بها الانتخابات ويفوز وهذا يعني أن الفضل فيما حصده حزب العدالة والتنمية من فوز سياسي يعود إلى العمل الكبير الذي قام به فتح الله كولن ولكن الخلاف الذي حصل بينه وبين أردغان جعل الأول يغادر تركيا ليستقر في أمريكا وجعل أردغان يعتبر أنصار كولن أعداء للدولة . ما حصل في هذه الانتخابات أن أنصار فتح الله كولن قد لعبوا دورا كبيرا في اقناع الناخب التركي بانتخاب أحزاب المعارضة وتحويل اختياره نحو التصويت لغير حزب الرئيس أردغان في عملية انتقامية مما حصل لهم من اعتقالات في صفوفهم بدعوى الضلوع في محاولة الانقلاب العسكرية التي فشلت. السبب الثالث هو الحضور السوري في تركيا حيث استقبل أردغان بعد اندلاع الثورة السورية وما حصل لها من تداعيات خطيرة بعد أن تحولت إلى معارضة مسلحة خضعت للتلاعب السياسي وللأجندات العربية والأجنبية وبعد دخول التنظيمات الاسلامية العنيفة على الخط أبرزها داعش وجبهة النصرة وتراجع تأثير المعارضة الديمقراطية التي لم تجد موطأ قدم أمام تنامي الجماعات الارهابية المسلحة البعض منها مدعوم من دول الخليج والبعض الآخر يعمل لحساب الأجنبي وزاد الأمر تعقيدا بعد دخول كل من إيران وروسيا ومقاتلي حزب الله حلبة الصراع في عملية إسناد لنظام بشار الأسد كل هذا التحول في مسار الثورة السورية أدى الى مغادرة الكثير من السوريين بلدهم نحو دول أخرى منها تركيا التي استقبلت بضع ملايين لكن هذا الحضور السوري فوق الأراضي التركية قد تذمر منه الشعب وشكل مصدر قلق لأمن وراحة الاتراك الذين رأوا في احتضان السوريين من طرف أردغان خطأ جسيما وإضرارا بمصلحة الشعب الذي بات يشعر بقلق كبير من تواجد السوريين فوق أراضيه فما كان من الشعب التركي إلا أن عاقب أردغان على صنيعه هذا وسحب ثقته من حزبه وحول وجهته نحو المعارضة وخير إعطاء صوته إلى غير حزب العدالة والتنمية. ما نخرج به من التجربة الديمقراطية التركية الأخيرة والتي سمحت لأحزاب معارضة أن تهزم الحزب الحاكم وأن يتم ذلك بكل هدوء وسلمية هي مسألة غير مألوفة في عالمنا العربي الإسلامي ، المهم فيما حصل هو أن الذي خرج منتصرا من هذه الانتخابات هو الشعب التركي الذي قدم درسا مهما في محاسبة الحكام لما يخطئون ويسيئون إدارة الشأن العام ويعمدون إلى اتخاذ اجراءات وتدابير تحد من منسوب الحريات وتحاصر الرأي وتعتقل المعارضين والرابح الآخر هو الديمقراطية التركية التي سمحت لأحزاب معارضة بهزم الحزب الحاكم بعد ربع قرن من الهيمنة والسيطرة ومن امتلاك أجهزة الدولة وتوظيفها لصالحه في كل ما حققه من فوز في السنوات الماضية فوعي الشعب التركي وآلية الديمقراطية التركية قد قدما درسا للعالم بأنه من الممكن أن يعاقب الشعب حاكمه حينما يشعر أنه مخطئ وبأن خياراته السياسية أصبحت تهدد أمن شعبه وحريته.