الرواية الأخيرة للكاتب عبد العزبز بلخوجة " عودة الفيلة " الصادرة في لغة موليار سنة 2016 هي رواية يمكن تصنيفها ضمن جنس مختلف من الأدب يعرف بالأدب الافتراضي الذي يفترض وضعا غير موجود ويبني عليه أحداثا كاملة ووضعيات مختلفة عن الوضعية الحقيقية كما حدثت في تاريخها وهذا فعلا هو موضوع رواية عودة الفيلة التي ترمز إلى البطل القرطاجني حنبعل الذي قاد حربا تاريخية ضد روما تقول المصادر التاريخية أنها كانت من أجل تحرير الشعوب التي كانت مستعمرة من طرف الامبراطورية الرومانية ومن أجل فتح طرق جديدة للتجارة وأخيرا من أجل نقل الحضارة القرطاجنية إلى روما وسيلته الفيلة وقد تمكن من هزمها في عقر دارها في معركة زاما التاريخية (الحرب البونية الثانية ) التي اتضح اليوم بعد المراجعات التاريخية أن حنبعل لم ينهزم فيها وإنما خرج منها منتصرا وقد أسست هذه الحرب مجد قرطاج حيث أصبحت بعد هزيمة روما في سنة 217 قبل الميلاد أعتى قوة عسكرية واقتصادية في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط وأكبر قوة في العالم ملكت كل مظاهر الحضارة والتفوق . و رواية عودة الفيلة تطرح سؤالا حضاريا مهما و فرضية طريفة تقول ماذا لو لم تسقط قرطاج ؟ وماذا كان سيكون عليه حال تونس لو لم تدمر قرطاج بعد الهزيمة التي تكبدتها في الحرب البونية الثالثة على أيدي الرومان الذين انتقموا لهزيمتهم أمام القائد حنبعل وانهوا ستة قرون ونصف من الريادة ؟ وهل كان سيتغبر حال تونس اليوم لو لم تسقط قرطاج وبقيت قوة حضارية ؟ وهل كنا سنعرف نفس المسار التاريخي والحضاري لو بقيت قرطاج رائدة ؟ يقول عبد العزيز بلخوجة قرطاج العظيمة لم تكن أسطورة بل كانت حقيقة لقد كانت فكرة ونظرية دامت أكثر من ستة قرون قرطاج كانت هنا على هذه الأرض التي تطؤها اليوم أقدامنا وقد مثلت القوة الكبرى في زمانها والقوة الوحيدة في العالم في زمن كانت العظمة الوحيدة والقوة والريادة لمن هو عبقري وقد كان القرطاجنيون الذين نحن اليوم من أحفادهم هم الأفضل .. تونس ولدت بعد تحد كبير، فعليسة هربت من أخيها بغماليون بعد مقتل والدها وأرادت أن تبني تونس متألقة . إن قرطاج تأسست على هذه الفكرة وتحققت الفكرة وأصبحت قرطاج أول جمهورية في التاريخ حسب الفيلسوف أرسطو الذي يعود له الفضل في تعريفنا بمسألة ثمينة وهي دستور قرطاج الذي يعد أول دستور في التاريخ. تطرح رواية " عودة الفيلة " فرضية عدم سقوط قرطاج العظيمة وعدم اندثار حضارتها المتألقة وتطرح سؤالا طريفا يقول لو لم تسقط قرطاح في سنة 146 قبل الميلاد ولم يتم حرقها بتلك الطريقة المأساوية التي حكمت عليها بالاندثار إلى الأبد لربما كانت تونس ستعرف مسار تاريخيا آخر وربما لم تكن لتعرف ما عرفته من موجات احتلال تناوبت عليها بدءا بالاحتلال الروماني إلى الوندالي والبيزنطيي وانتهاء بالاحتلال الإسباني الذي مهد لإلحاق تونس بالسلطنة العثمانية قبل ان تحتلها فرنسا في صيغة نظام الحماية . لو بقيت قرطاج شامخة لربما لم تسمح للوافد العربي أن يستوطن الأرض ولربما لم تعرف هذه الأرض دخولا للإسلام ولم يعرف البربر السكان الأصليون صراعا مع الفاتحين من المسلمين لتصبح تونس بداية من القرن السابع ميلادي أرضا إسلامية. من هذه الوضعية الافتراضية التي تتخيل ما سيكون عليه حال تونس لو لم تسقط قرطاج وتدمر على أيدي الرومان تبدأ الرواية التي تنقلنا إلى سنة 2103 ميلادي في زمن مستقبلي بلغت فيه قرطاج أوج عظمتها و قوتها وفي جغرافيا أصبحت فيها قرطاج جمهورية كبيرة مترامية الأطراف تمتد إلى موريتانا غربا ومحتوية كل المشرق التي ضمته إليها في إطار منظومة حكم فيدرالية وضمن حدود مفتوحة بين دولها وسكان كل هذه الإمبراطورية الشاسعة وهذه الجمهورية العظمى يسمون "القرطاجنيون " بما يعني أنه لو بقيت قرطاج إلي اليوم لأصبحت جمهورية عظمى و لأصبحنا نحن سكان تونس ننتمي الى الشعب القرطاجني الذي يعيش ضمن حدودا جغرافية مفتوحة وهو بهذا التصور الافتراضي الذي يحملنا إلى زمن مستقبلي يقوم الكاتب بقلب الوضع الحالي رأسا على عقب ويجعل من شعب جمهورية قرطاج هو الشعب المتحضر والمتقدم والمتمدن ويجعل من الشعوب الأوروبية الأخرى شعوبا متخلفة تنخرها كل الآفات التي تنخر جسم الأمة العربية والإسلامية اليوم. فالكاتب أراد أن يقول لو أن قرطاج لم تسقط ودامت إلى اليوم لكنا نحن قادة العام ولكنا نحن الشعب المتحضر والمتقدم و لكانت الشعوب الأوروبية هي المتخلفة . ويتمادى الكاتب في هذا الافتراض العكسي بأن جعل كل معوقات التقدم وكل التخلف عند الغرب فالشعوب الغربية في زمن جمهورية قرطاج العظيمة في سنة 2103 هي شعوب همجية لا يصدر عنها إلا الإرهاب والإجرام والتخلف وهي تعيش في ظل دول قطرية حدودها مغلقة وكل أملها أن تتمكن من الدخول الى جمهورية قرطاج بأي طريقة كانت للعمل أو للدراسة. يقول عبد العزيز بلخوجة " يوجد في روما مخيم للاجئين و بها آلاف من الاشخاص يريدون عبور الحائط الذي أقاموه لمنع التسلل إلى خارجه وهو عار وفضيحة في زمن تكون فيه حدود الشرق كلها مفتوحة تحت حكم جمهورية قرطاج.. إن توزر في الزمن القرطاجني تمتلك مركزا للطاقة الشمسية وكل الطاقات العلمية في العالم تحلم بالإلتحاق بجامعات قرطاج ." في الزمن القرطاجني الافتراضي الرجل الأمريكي ليس هو أفضل البشر بل هو على العكس من ذلك والناس ينظرون إليه نظرة سيئة - كما ينظر اليوم العالم المتقدم للإنسان العربي - ليس لهم لا عهد ولا ميثاق هم خونة ولصوص وإرهابيون والإرهاب يسري في دماهم وحكوماتهم مضطرة إلى محاكمة أعمالهم الارهابية التي تضر بمصالح القرطاجنيين في كل العالم. وقرطاج في الزمن الافتراضي لو بقيت صامدة هي من أنظف المدن وهي متقدمة في العلم والمعرفة وبها مكتبة من أضخم المكتبات في العالم و بها مراكز بحث الأكثر شهرة وهي قوة فلاحية مكنتها من إنتاج زراعي وافر وتقدم تكنولوجي رهيب فكل شيء يعمل بالطاقة الشمسية وكل شيء يعمل بواسطة الآلة التي عوضت الانسان وحتى لا يغرق سكانها ومواطنوها في البطالة فقد خيرت جمهورية قرطاج أن تضع نظاما اجتماعيا يوفر بعض الأعمال اليدوية البسيطة التي تسمح للعمال بتقديم خدمات مقابل حصولهم على رواتب بدل أن تمنحهم منح بطالة من دون أن يؤدوا أعمالا وقد بلغت قرطاج من العظمة والتفوق الحد الذي يمكن معه اعتبار أن كل التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم لا يضاهي ما وصلت إليه. هذه هي تونس في ظل جمهورية قرطاج التي تخيلها الكاتب صامدة لم تسقط وهذه هي تونس في الزمن القرطاجني المستقبلي الافتراضي التي كان يمكن أن تكون هي فيه محور العالم اليوم وهذه الفرضية التي تقول لو لم تسقط قرطاج لكنا اليوم سادة العالم وقادته هي نفسها تؤدي إلى أن يعرف الغرب نفس مصيرنا الحالي ووضعنا المتخلف. لو لم تسقط قرطاج لعادت الفيلة وحكمت العالم من جديد ولعاد حنبعل يحل السلام بمعاركه التي لم تكن يوما حروبا من أجل احتلال الأوطان وإنما كانت حروبا من أجل التحرر والتحضر و إحلال السلام ورسالة إلى العالم بأن لا يقترب الآخرون من قرطاج العظيمة وإلا احترقوا. لو لم تسقط قرطاج لربما كان حالنا أفضل وأحسن ولكنا اليوم نحن التونسيون شعبا يطلق عليه الشعب القرطاجني ولكان العالم يخشانا ويحترمنا .. لو لم تسقط قرطاج لربما كنا مختلفين عما نحن عليه اليوم ولكان حالنا غير حالنا اليوم . قيمة هذه الرواية في كونها تلقي بضلالها على واقعنا الحالي وتفرض استحضار المجد القرطاجني في علاقة بحدث الثورة الذي أعاد إلى الأذهان ذلك التاريخ القديم الذي كانت فيه تونس جمهورية ديمقراطية وفيدرالية تحكم في كل العالم وتتوفر على نظرية للحكم تقوم على الحرية والديمقراطية والتفوق العلمي والعسكري فقرطاج لم تكن يوما أسطورة وإنما هي فكرة ونظرية لبناء الدولة والمجتمع. ما أراد قوله الكاتب من وراء روايته هو أن تونس الثورة تحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى قرطاج جديدة وإلى مشروع قرطاج السياسي ..