يوم 18أفريل 2019 يكون قد مرّ ت على وفاة المثقف والكاتب ورجل الدولة الحبيب بو لعراس خمس سنوات وقد وُدِّع يومها في موكب حضره كلّ أطياف الشعب التونسي من الذين عرفوا الرجل وتعاملوا معه منذ الكفاح الوطني لتحرير الوطن إلى المساهمة الفعّالة في بناء دولة الاستقلال كما كان له شأن كبير في المساهمة في الحياة الثقّافيّة وبناء المشروع الثقّافي التونسي زيادة على أنّه تميّز بكتاباته وقد امتاز إنتاجه الأدبي بالتنوّع والغزارة حيث كتب في كلّ أجناس الأدبيّة وكان لآثاره الأدبيّة صداها في الداخل والخارج إذ الحبيب" بولعراس" كتب باللسانين العربيّة والفرنسيّة كما ترجمتْ جلّ كتاباته التي كانت بالعربيّة إلى الفرنسيّة ونخصّ بالذكر مسرحيّة "مراد الثالث" التي ترجمت للفرنسيّة ونشرتْ باللغتين كما ترجمت مسرحيّة "عهد البوراق" إلى الفرنسيّة ثمّ إنّ الحبيب بولعراس قد كتب في التاريخ وأصدر كتاب "حنّبعل" بالفرنسيّة وكذلك آخر كتبه بعنوان"تاريخ تونس... المحطّات الكبرى من فترة ما قبل التاريخ إلى الثورة" كما كتب دراسة بالفرنسيّة بعنوان "الإسلام الخوف والأمل" الذي ترجمتْ للأنقليزيّة كما كانت له علاقة متينة بالسينما وأهلها فكتب سيناريو بالفرنسيّة أخرجه رشيد فرشيو بعنوان "يسرى" وأكتفي في هذا المقام بذكر البعض من إنتاجه الأدبي و أترك للباحثين والجامعيّن العناية بدراسة آثاره الأدبيّة والوقوف عند خصائص هذا الكاتب التونسي وتعريف الشباب بما ترك من إنتاج هو في حاجة ملحّة للدرس حتى نبرز عبقرية الحبيب بولعراس كاتبا و ما يتمتّع به من تميّز واقتدار وقد مرّت على وفاته خمس سنوات ولم تحرّك -الجامعة التونسيّة وخاصة كليات الآداب في مختلف الجهات- ساكن حتّى تنشر بالدراسات حول هذا الرجل الذي ترك آثارا كثيرة في حاجة للدراسة و التعريف بها . وقد ساهمت دار البستان للنشر في التعريف بهذا الرجل ضمن سلسلة "أبعاد" التي كان يديرها المرحوم أحمد الرّمادي بتقديم تجربته لقرّاء سلسلة "أبعاد" انطلاقا من توجّهات السلسلة التي تعنى بالإحاطة بشتّى مجالات المعرفة و الثقّافة شهادة للناس وللتاريخ وإسهاما في إثراء الحركة الثقّافيّة" حيث أصدرت له كتابا بعنوان"منطلقات الثباث" اختار أن يتحدّث فيه عن تجربته في الشأن الثقّافي اعتمادا على مجموعة من الحوارات كانت له مع صحف تونسيّة وعربيّة وقد أكّد أنّه سوف لن يتحدّث في هذا الكتاب عن الحبيب بولعراس المناضل الوطني ورجل السياسة والصحّافي والبرلماني مؤكّدا أنّه سوف لن يتطرّق إلى كلّ ما ليس له صلة بالثقّافة قائلا :"واستبعدت ُعن هذه المجموعة- يقصد التي لها علاقة بالثقّافة –مباحث ومحاضرات ألقيتها في مناسبات أخرى قد تجد مكانا لها في المستقبل في مجموعات محورها العمل السياسي و الإعلامي و النيابي." هذه المجموعات التي أشار إليها "الحبيب بولعراس" لابدّ أن تكون ثريّة بثراء تجربة الحبيب بولعراس النضاليّة والسياسيّة والإعلاميّة والبرلمانيّة لكن من المؤسف فقد مرّت على وفاته خمس سنوات ولم يظهر على الساحة ما يشير إلى ما تتضمّنه هذه الوثائق و بين يدي من هي اليوم؟ وقد أكّد أنّها تتضمّن حوارات وتصريحات ومحاضرات لها علاقة بالشأن الثقّافي ويمكن أن نعرف مدى أهميّة هذه الوثائق إذا علمنا أنّ الحبيب بولعراس قضى ما يزيد عن الستين سنة بين الصحافة والنضال والسياسة والبرلماني فإنّ ما قاله وما كتبه في هذه الميادين سوف يساهم إن- قدّر له الظهور- في إثراء المعطيات المتوفّرة لدى الباحثين في هذه المجالات وستسلّط أضواء جديدة على الحياة السياسّة والصحفيّة والبرلمانيّة في تونس طوال نصف قرن ذلك أنّ الحبيب بولعراس كان مناضلا وطنيّا صعب المراس وله مواقف شديدة الاختلاف عن غيره من المناضلين كما أنّه في الميدان الصحفي قد تناول مواضيع كانت من الممنوعات في عصره وتسبّبت له في كثير من المشاكل والاقصاءات من الحياة السياسيّة وقد صبغ فترة ترؤّسه للبرلمان بروحه إصلاحيّة ونقديّة يشهد بها كلّ النواب الذين عملوا معه في تلك الفترة و معرفة كلّ مواقفه في هذه الميادين هو اليوم رهين العثور على الوثاق الذي استبعدها من حديثه في الكتاب الذي نُشِر له في سلسلة أبعاد على أمل أن ينشَر في كتاب آخر لكن انقطاعه لإصدار كتابه عن تاريخ تونس وتعكّر صحّته حالا دون أن يفي بالوعد الذي قطعه على نفسه وهو إصدار هذه الوثائق في كتاب آخر ويا حبّذا لو يبحث أحد الطلبة عن هذه الوثائق لذا عائلته ومعارفه وأصدقائه ويصدرها لنا في شكل دراسة علميّة إذ المرحوم الحبيب بولعراس جدير بهذا التكريم كما أنّ هذه الدراسة ستساهم في إضاءة بعض الجوانب من مرحلة الكفاح الوطني و النهضة الشاملة التي عرفتها بلادنا إبّان الاستقلال . وإلى أن تظهر هذه الوثائق أذكّر أنّ المرحوم تولّى الوزارة المكلّفة بشؤون الثقّافة مرّتين الأولى من 12 جوان 1970 إلى17 جوان1971 والثانية من27 جويلية1988 إلى 3 مارس1990 فيكون بذلك قد باشر مسؤوليّة التسيّر الثقّافي لمدّة سنتين ونصف منها سنة في العهد البورقيبي والبقيّة:"بعد ذلك البيان المفعم بالأمل والمغذّي للحماس..." كما جاء على لسانه وبذلك يكون الحبيب" بو لعراس "مؤهّلا لإبداء آراء و اتخاذ مواقف في الوضع الثقّافي في تونس منذ السبعينات ومرجعا يعتدّ به لتقيّم الشأن الثقّافي التونسي كما لا بدّا أن أذكّر بما ورد في كتاب" منطلقات الثباث" من مواقف وآراء هو خلاصة أحاديث صحفيّة لجرائد تونسيّة وأجنبيّة تناولت بالتوضيح إشكاليات و مفاهيم مثل مفهوم "الغز الثقّافي" أو "إشكاليّة كيان ثقّافي حي" أو "توضيح مفاهيم متشابهة "أو "ملامح السياسة الثقّافيّة تعبئة أدوات لتجسيم خيارات فقد خصّص حيزا كبيرا من أحاديثه لتوضيح ملامح السياسة الثقّافيّة في تونس. 2من2 وحيث أنّ الحبيب بولعراس مفكّر وكاتب قبل أن يكون مسيّر للشأن الثقّافي فقد صدّر كتابه هذا-منطلقات الثبات- بمقّدمة ممتعة أطلق فيها العنان لفكره الثاقب وذوقه الجذّاب ليعرّف الثقّافة ويتناول مواضيع مازالت لها تأثيرها إلى اليوم في الحياة الثقّافيّة في تونس . فهو ينظر للثقّافة من العديد من الجوانب فهي بالنسبة له بالأمس واليوم وغدا:"كنه وفكر ونظر وذوق وموقف وسلوك وخطاب مع الكون و الناس هي كذلك أخلاق و آداب وعقيدة و نقوش في النفوس وفي الحجارة ومعالم مشهودة ومعارف دفينة.وكلّ هذا يُعَبَّرُ عنه شعرا وموسيقى ورواية وقصّة و مسرح وشريط ورسم ونحت ودهن وخزف ورقص وكلّ ما تحدثه الإبداعات والاكتشافات أو ما تحفظه المتاحف والآثار والتقاليد. فهي- الثقّافة- عند الحبيب بو لعراس مجموعة من القيم والمواقف يُعبَّر عنها بمجموعة من التعابير تعرف بالفنون هي خلاصة تجارب الإنسان وآثاره في هذا الكون على مرّ العصور هذا تعريف الثقّافة عند الحبيب بولعراس الأديب والمثقّف أمّا الحبيب بولعراس المسؤول أو المسيّر للشأن الثقّافي فيرى أنّ الثقافة في حاجة لوسائل وهياكل وفي حاجة إلى الآليات السمعيّة البصريّة من دور نشر ومسرح وسينما وملاهي ومكتبات للبيع ومكتبات للمطالعة والمحافظة على كنوز المخطوطات كما هي معارض وأسواق ومهرجانات وشوارع وكلّ الفضاءات ليستنتج أنّ الثقّافة هي روح وذات وحياة. هي حياة لها حياة فهي مرآة حياة الناس ماضيا وحاضرا واستشرافا لها قيّم ومراجع وثوابت ومتغيّرات ولا ندري هل هي تملكنا أم نحن نملكها لكن ندري أنّ خلاصتها في سلوكنا أمام الحياة والموت والكون واليوم الآخر ونظرتنا للجمال والطبيعة ورأينا في أنفسنا وفي بعضنا البعض. كما تطرّق إلى مفهوم الثقّافة الذي هو محلّ خلاف بين كلّ الناس إذ انحصر هذا المفهوم في الماضي في بعض الأنشطة التي يمكن أن نعبّر عنها بالجماليّة أي الفنون المستظرفة وما كان يسمّى في أروبا بالإنسانيات.ثمّ حصل التطوّر الذي جعل من الثقّافة صورة لمنزلة الإنسان في المجتمع وفي الحياة وأنّها تشمل كلّ ما من شأنه أن يسهم في بلورة شخصيّة الإنسان ومساعدته على مواجهة المشاكل التي تعترضه وتتصل بمعنى حياته ومعنى كفاحه.لذلك فمن المهمّ تمكين كلّ فرد من الثقافة ومن المشاركة فيها وهنا يبرز دور السلطة العموميّة الذي يعتبره الحبيب بولعراس أساسي في السياسة الثقّافيّة ويعتبر اللامركزيّة الثقّافة مرتبط بمحورالثقّافة" القوميّة"وبمحور الثقّافة العالميّة والإنسانيّة باعتبار ما فيها من أصل مشترك لكلّ بني الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه أبناء أي أمّة من الأمم وحتى تكون الثقافة للجميع يرى الحبيب بولعراس ضرورة إدراج العمل الثقّافي في عمل "التنميّة العام"(التنمية الشاملة) إدماجا وهضما وإشعاعا على كلّ نشاطات الحياة وهذه أسس لا بدّ من أن تبنى عليها السياسة الثقّافيّة في تونس. وحيث أنّ حضور الثقّافة العالميّة والإنسانيّة في تونس والعالم العربي خاصة قد أثار –ومازال يثير النقاش حول موضوع "الغزو الثقافي "الذي هو حديث النوادي وقد أدلى فيه الكتاب والسياسيون وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وغيرهم كثيرون بدلوهم فإنّ الحبيب بولعراس لم يشدّ عن هذه القاعدة وتناول هذا الموضوع في حوار صحفي سنة 1989 حيث يرى أنّ الطرح لهذا الإشكال طرح خاطئ فاستعمال كلمة غزو في الميدان الثقّافي في غير محلّه إذ يرى أنّ العالم يسير من الناحيّة التكنولوجيّة إلى مرتبة سيكون فيها المتفرّج بإمكانه التقاط أي محطّة تلفزيونيّة في العالم (وهذا ما نحن عليه اليوم2019 ) وهذا لا سبيل لمنعه علميّا لذلك فالواقع ليس في كيفيّة منع المتفرّج العربي من التقاط البرامج المعنيّة لأنّ ذلك المنع سيصبح مستحيلا شيئا فشيئا .ثمّ إنّ في ما يسمى بالغزو الثقافي منتوجا ثقافي عام شامل إنساني وأمام هذا المنتوج لا بدّ من حريّة الفكر وحريّة العمل الثقّافي من أن تجد نصيبها فيها .وإذا خشينا عمّا يقال عن الغزو الثقّافي من مسّ بالقيم والتراث فذلك لا يكون إلّا بسبب ضعف الشخصيّة ودورنا أن نعمل كلّ جهودنا لحماية وتقويّة الشخصيّة ففكرة الغزو الثقّافي فيها كثير من الإبهام و تحتاج إلى كثير من النقاش ألم نعتبر في وقت من الأوقات أنّ موضوع الهندام يعتبر غزوا ثقّافي وطريقة تناول الطعام وهيأة المرأة....ثمّ هذه الأمور قد تجاوزها الزمن فليس اقتناء أو اقتباس صورة معيّنة من الحياة الأجنبيّة هو الذي يحطّم الشخصيّة بل ما يحطّمها هو ضعف تكوينها وضعف التنشئة وضعف المعرفة والتأصّل والتجدّر.فبناء هذه الشخصيّة يكون بالتمكّن من القيم التي نؤمن بها وتكون البداية من العقيدة والأخلاق الإسلاميّة كما تبدأ كذلك من تراثنا الثقّافي بما فيه من أدب وموسيقى وفنون وصناعة وقيم اجتماعيّة كما تبدأ كذلك بتصورّنا للعالم وتعاملنا معه.هذه المقوّمات هي التي يجب أن ندعّمها وأن نجعل المواطن التونسي أو العربي فخورا بها فخرا يقيه من التشبّه أو التجنّس بقيم أخرى وهذا لا يعني إطلاقا أن لا نشترك مع الإنسانيّة جمعاء في قيم نؤمن بها لأنّ مصدرها الأساسي مأخوذ من حضارتنا حتى لو كان شكلها العصري يأتينا من حضارات أجنبيّة والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما يسمّى اليوم "حقوق الإنسان" فالدين الإسلامي أوّل دين نادى بالمساواة بين البشر و الرسالة الإسلاميّة موجّهة للإنسانيّة جمعاء وجعل الناس سواسيّة بصرف النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو الأوضاع الاجتماعيّة هذه القيم في شكلها العصري أخذت شكلا أروبيا ووقع تقنين حقوق الإنسان في بريطانيا ثمّ في أمريكا ثمّ في الثورة الفرنسيّة ثمّ في الأمم المتّحدة. وبالرجوع إلى مفهوم "الغزو الثقّافي" ألم تكن في عهد الاستعمار مسلّطة علينا ضغوط ثقّافيّة وصلتْ إلى حدّ محاولة فَرْنَستنا ومحو ذاتيتنا وهويّتنا ومع هذا قاومنا هذه الضغوط واستطعنا أن نحافظ على كياننا وهويّتنا ولغتنا بل إنّ هذه محاولات الفرنسة زادتنا تمسّكا بقيمنا وتراثنا وأنعشتْ فينا شعور الاعتزاز بموروثنا الحضاري الثقّافي الذي هو حصيلة أحقاب من العيش على هذه الأرض التي آوت حضارات متعاقبة شكّلت هذه الشخصيّة التونسيّة التي كانت عصيّة على المستعمر والتي ستكون عصيّة على كلّ غزو داخلي أو خارجي مهما كان اسمه أو كنهه.