ظهرت منذ أيام قليلة وثيقة تاريخية مهمة غير معروفة وغير متداولة بين المؤرخين المهتمين بالتاريخ التونسي وخاصة تاريخ الحركة الوطنية وتحديدا الصراع اليوسفي البورقيبي نشرها السيد البشير بن يحمد مدير مجلة جون أفريك في العدد رقم 2879 الصادر بتاريخ من 13 إلى 19 مارس 2016 والذي شغل منصب وزير الإعلام في حكومة بورقيبة الأولى تتحدث عن رسالة كان قد كتبها الزعيم صالح بن يوسف في التاسع من شهر أفريل سنة 1956 أي تقريبا بعد ثلاثة أسابيع من الاستقلال و أهم ما جاء فيها أن صالح بن يوسف نصب نفسه قائدا أعلى لجيش التحرير الوطني التونسي وسمى العجمي المدور قائدا على جنود تطاوين ومحمد بن ضو قائدا على جنود بني خداش والمبروك بوذينة قائدا على جنود مدنين وأم التمر والساسي بن الهادف الحزامي قائد جنود مارث والحزم ومطماطة و تضيف الرسالة أن صالح بن يوسف بعد أن عزل الطاهر الأسود عن قيادة جيش التحرير الوطني التونسي وسمى قادة جند لبعض مناطق الجنوب طلب من العجمي المدور القائد الجديد لجيش التحرير الاستعداد للثورة و أنه سوف يعلمه لاحقا بتاريخ بدء الهجوم العام نحو الشمال. إن هذه الرسالة التي تنسب إلي صالح بن يوسف والتي ظهرت في هذا التوقيت الحساس والبلاد خارجة للتو من محنة كبيرة بعد صدها لمحاولة افتكاك مدينة مدنين من قبل جماعة إرهابية مسلحة تنتمي إلي تنظيم داعش بغاية إقامة إمارة إسلامية بها تابعة لدولة الخلافة سوف يكون لها تداعيات وانعكاسات خطيرة وسوف تفرض بالضرورة على المؤرخين إعادة فهم ما حصل في زمن الاستقلال المبكر وإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية ومراجعة كل القناعات والمسلمات في تحليل ما حصل من صراع مدمر بين اليوسفيين والبوقيبيين و الكشف عن حقيقة السؤال الكبير الذي ظل إلي اليوم محل جدال وهو سؤال لماذا اغتيل صالح بن يوسف ؟ ولماذا قرر بورقيبة التخلص منه ؟ في تقديري قيمة هذه الوثيقة تكمن في مسائل ثلاث : الأولى نقض فكرة أن الجنوب التونسي له لون يوسفي وله ولاء للزعيم صالح بن يوسف وأن أهل الجنوب كانوا معارضين لفكر بورقيبة وسياساته وخياراته فجاءت هذه الرسالة تفند هذه الفكرة وتقول أن أهل الجنوب رغم كل ما يقال عنهم من أنهم يوسفيون وأنهم عارضوا بورقيبة فإنهم لم ينخرطوا في هذا التحرك العسكري ورفضوا هذا التمشي الذي لو حصل لكان قد خلف أرواحا كثيرة وأشعل فتنة مدمرة ومن وراء ذلك انهيار الدولة وانقسام البلاد وفصل الجنوب عن بقية جهات البلاد الأخرى بما يعني أن أهل الجنوب لم ينساقوا وراء اختيارات صالح بن يوسف العسكرية وبقوا على الوفاء للدولة و لحدتها. ولكن هذا الموقف هل يفهم منه والوفاء لبورقيبة أم أن وراء ذلك حسابات أخرى ؟ لا يمكن تقديم جواب حاسم عن هذا السؤال و كل ما يمكن فهمه من هذه الرسالة وما حصل بعدها هو أن أهل الجنوب رفضوا التمرد والثورة على الدولة وعلى الرئيس بورقيبة وخيروا الإبقاء على وحدة البلاد وعلى بورقيبة رئيسا للدولة . المسألة الثانية التي تكشف عنها هذه الرسالة هي الإجابة عن سؤال لماذا قتل صالح بن يوسف؟ ولماذا قرر بورقيبة التخلص منه ؟ فما هو معروف في الصراع اليوسفي البورقيبي هو أنه خلاف أفكار ومشاريع سياسية واختيارات حضارية وهو صراع يدور حول فكرة الاستقلال الداخلي والاستقلال التام وبين الموقف من الحداثة هل نذهب نحو الشرق أم نختار وجهة الغرب ؟ والموقف من الحرب العالمية الثانية هل نقف في صف الحلفاء أم نساند المحور؟ وهل نكتفي باستقلال تونس أم نختار تحرير المغرب العربي بكامله ؟ و إلي غير ذلك من القضايا الفكرية الخلافية فكفرة الأمة التونسية والأمة العربية والموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وكان الظن أن الصراع يكمن في هذه القضايا وأن الخلاف بين الرجلين هو خلاف اختيارات وتوجهات لتكشف هذه الوثيقة على أن الصراع كان صراعا من أجل الزعامة وعلى من يقود الدولة وأن البلاد لم تكن تتحمل وجود زعيمين معا والسلطة لا تقبل رئيسين والسفينة لا بد لها من ربان واحد فكان لا بد من أن ينتهي أحد الرجلين وهذا ما يفسر لماذا تتحدث هذه الوثيقة عن ترتيب ثورة وتمرد عسكري ومحاولة انفصال الجنوب عن المركز والزحف على الشمال وافتكاك الحكم من خلال ثورة وانقلاب عسكري على الدولة وهي في بداية استقلالها بما يعني أن ما قام به بورقيبة بعد ذلك يفهم منه على أنه دفاع شرعي عن النفس ودفاع الدولة عن نفسها وضد من حاول الإطاحة بها والخروج عليها بعمل مسلح وثورة في الجنوب وبالتالي فإن اغتيال صالح بن يوسف من قبل بورقيبة يكون بعد هذه الوثيقة عملا مشروعا يندرج ضمن منطق شرعية الدولة في الدفاع عن نفسها. المسألة الثالثة تتعلق بالجنوب التونسي والمناطق الحدودية التي كانت منذ زمن طويل محل مراهنة للقيام بالثورة على السلطة المركزية ولإحراج الدولة فالجنوب التونسي كان دوما يعول عليه لاحتضان الثورة والتمرد على الحكم المركزي لأسباب تعود إلي وضعه الاجتماعي والاقتصادي وإلى حالة الإقصاء والتهميش الذي يعاني منها سكانه فكانت أحداث قفصة 1980 صورة من هذا الرهان واليوم أحداث بن قردان صورة أخرى وقبلهما كان ما خطط له صالح بن يوسف في بداية الاستقلال من اندلاع ثورة تنطلق من الجنوب وتزحف نحو الشمال لافتكاك الحكم من بورقيبة ولكن المفيد والمهم هو أنه في كل مرة تفشل محاولة الرهان على الجنوب ويحبط استثمار الحالة الاجتماعية لسكان هذه المناطق وما هم عليه من غضب واحتقان على الدولة بما يعني أن الجنوب التونسي ظل إلي اليوم وفيا لدولته وحريصا على وحدة تراب الوطن وأنه رغم كل الضيم والظلم والحرمان الذي يشعر به إلا أنه ظل وفيا للوطن وغير مستعد لأي عمل انفصالي أو ثورة على الدولة . هذه قراءة لهذه الرسالة التي تظهر اليوم ولهذه الوثيقة التاريخية المهمة التي لو تصح فإنها سوف تقلب كل المعطيات رأسا على عقب وسوف تؤكد أن الخلاف اليوسفي البورقيبي كان خلافا على الحكم والسلطة وعلى الزعامة وعلى من يقود البلاد بعد الاستقلال وأن اغتيال صالح بن يوسف كان ردة فعل طبيعية من دولة تدافع عن نفسها وأن قرار بورقيبة بتصفيته كان قرارا مشروعا بعد التخطيط للثورة والانقلاب على الحكم والدولة التونسية في أيامها الأولى . فما رأي المؤرخين ؟ - هذا المقال نشر في سنة 2016 بجريدة الصريح الورقية ونعيد نشره اليوم بمناسبة القضية المرفوعة أمام المحكمة الابتدائية بتونس يوم 16 ماي الجاري للنظر في قضية اغتيال صالح بن يوسف بعد إحالة ملفه من طرف هيئة الحقيقة والكرامة