أواسط شهر ماي المنقضي بدأت بالعاصمة محاكمة المتورطين في جريمة اغتيال صالح بن يوسف وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة...محاكمةٌ قسّمت الرأي العام بين مؤيّد ورافض!. أما النخبة والطبقة السياسية فإنقسامها كان أشد، وهذا متوقّع ، فمن جهة توجد أحقادٌ وضغائن دفينة( ومنها ماهومشروع ومنها الكثير المَرَضي الأبله دون أي دراية)ومن جهة أخرى توجد اطماع وتوظيف سياسي حزبي لأن رمزية بورقيبة تمثل لأحزابهم "الأصل التجاري".ففي الحقيقة هم من بارك الإطاحة ببورقيبة ووضعه في الإقامة الجبرية وإسقاط تماثيله ونسيانه بإسم "التغيير المبارك"!..إنّ هذه الأخلاقيات هي التفسير الخفي للمستنقع الذي وقعت فيه البلاد من توافق وتنافق وتحالفات وانشقاقات وسياحة حزبية ونيابية.وهي أيضا التفسير الخفي لفضاعة إستشراء الفساد الذي عم البلاد البلاد على كافة الأصعدة.فالشعوب على ملّة النخبة !! أما من الناحية القانونية الإجرائية ،فالمعارضون والمؤيدون للمحاكمة لكلٍّ مبرّراته. فالمعارضون يعتبرنها غير قانونية متعلّلين خاصة بمبدأ سقوط الدعوى العمومية بموجب وفاة المدّعَى عليه.أما المؤيدون فيتعلّلون بدستورية العدالة الإنتقالية ومنها هيئة الحقيقة والكرامة التي جُعلت خصّيصا للمكاشفة ولمحاسبة الإنتهاكات التي وقعت خلال الفترة التي تمتد تقريبا بين تشكيل أول حكومة إستقلال وسقوط حكومة الترويكا. وفي رأيي الشخصي المحاكمة القاضئية لبورقيبة غير معقولة لأنها تعني بشكل أو بآخر "رفض الإستقلال"!فالمفروض إلغاؤها!( إلغاؤها والإكتفاء فقط بمحاكمة أدبية لتصحيح كتابة التاريخ !) فمساوئ حكم بورقيبة لا يمكن أبدا أن تحجب نضاله الكبير من اجل الإستقلال!. فبورقيبة ،رحمه الله، كرّس حياته وجهده ووجدانه للإستقلال ثم لبناء الدولة والنهوض بالمجتمع بإسلوب منفتح عصري الذي كان يسميه بشكل متكرر "الجهاد الأكبر" تيمّنًا بحديث نبوي شريف(ولقد استثمر بعض المتزلفين هذا فأطلقوا عليه تسمية "قائد الجهادين"..لكن هنا وجب التذكير بأن تسمية- المجاهد الأكبر- كانت صوت من خضم معركة النضال الأوّل الذي فيه عرّض بورقيبة نفسه لأخطار كبرى منها حتى الإعدام أو الإغتيال،ناهيك عن إنفاقه لكل ما يملك من مال بلا حساب دون تردّد.فقبل هجرته المتخفية الى مصر، ربيع 1945، باع كل ما ورثه عن والده ومن ذلك حوالي مئة زيتونة وترك ثمنها لزوجته وولده،لأنه كان يتوقع عدم عودته كما قال هو!..) أما إذا اردنا ان نلقي الضوء على بعض مساوئ حكم بورقيبة ،فربما يجوز لنا القول أن حكمه بدأ يختل بفشل التعاضد.فشلٌتلاه "عصر الإنفتاح" الذي فيه برزت طبقة جديدة من الإنتهازيين والكمبرادور والمتزلّفين.وفي تلك المرحلة صار الإنتماء للحزب لا يكاد يخلو من مصلحة شخصية.فضاع أريج الوطنية الحقة وإنخرم كل شي، وتسبب حتى في التفاوت الجهوي وانقسمت البلاد في عقول بعضهم الى "ما قبل البلايكْ وما وراء البلايكْ" عباراتٌ مازالت سارية المفعول( انظر مقالي: الزعيم بورقيبة بالأرقام)! ولولا حزم الهادي نويرة لما استطاع الحزب أن يستمر الى سنة78،لكنه وصلها مترنحًا فاقدًا للكثير من الشعبية.فبدأت حينها تتكاثر الإتجاهات المعارضة والإنتفاضات الشعبية ضد الحزب الدستوري التي رفعت فيها كثيرا شعارات " يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب"وكان الحزب الحاكم الدستوري يرد عليها بالقمع ليسقط مئات الشهداء ويُزج بأعداد كبيرة من المواطنين و قيادات إتحاد الشغل الى المحاكم، ومنهم الحبيب عاشور الذي قسى عليه بورقيبة كثيرا (رغم أنه كان من ابرز المساندين له في مؤتمر صفاقس الذي خلاله حُسِم الأمرُ لصالح بورقيبة رغم موقفه الضعيف. فالجامعة الدستورية بالعاصمة كانت حينها كلها ضده ،لكن بفعل هذه الشخصيات الوازنة،ومنهم عاشور،تم عزل صالح بن يوسف! ).... فالمعارضون لبورقيبة، سوى من الجيل الأول أو الأجيال اللاحقة،لم يكونوا كلهم "شياطين ومشوّشين"وإنما كانت لهم مبررّات معقولة.أما "الظلمة والمشوشون" بحق فهم المطبّلون من جماعة "ما كيفهْ حدْ"!( "غلّطوني" كما قال بن علي).فمن أقوال سيدنا عمر : أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي!! (أما الرئيس الأمريكي براهام لنكلن، فمن أقواله: كل المآثر والإنجازات التي ترونها إنما هي "من إنجاز" السياط التي ألهبت ظهري!). إنّ من أكبر مساوئ بورقيبة هي أنه كان يعتبرنضال رفاقه من اجل الإستقلال "ثانويّا"،وكان يستصغر دور المقاومين ويسخر أحيانا من بعضهم!!وطبعا في ظل تلك الدكتاتورية من المستحيل أن يُكتب التاريخُ بموضوعية، لا سيما تلك الحقبة التي هو مسؤول عنها!!فقضيّة إغتيال صالح بن يوسف هي في الحقيقة شجرة تخفي غابة كثيفة من المظالم في حق المناضلين و المقاومين،ومن هؤلاء نذكر، من الشمال الغربي، المقاوم الكبيرالطيب الزلاق،الذي سلّم نفسه مطلع مارس56 ولكن حُوكم بالإعدام ونُفذ فيه الشنق!وكذلك،من دوز، الهادي قدورة تم شنقه في السنة الموالية.وكذلك عبد الله البوعمراني من قادة المقاومة بالجنوب الغربي،والطاهر الغريبي الذي حُكم غيابيا بالإعدام لكنه فر الى ليبيا ولم يعد إلا بعد ازاحة بورقيبة ! وفرّ أيضا الى ليبيا المناضل الكبير الوطني والقومي بحق ،حسين التريكي وقد توفي في 2012 بالأرجنتين.هذا ناهيك عن المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة..والغريب أننا إذا رجعنا الى سبب حمل هؤلاء المقاومين "للسلاح دون رخصة" نجده بكل بساطة إستجابةً منهم لقادة الحزب وعلى رأسهم بورقيبة لثورة جانفي 1952!( التي خلالها تم القبض على بورقيبة ونفيه .وقد تم لاحقًا اعتماد هذا التاريخ -عيد الثورة-)ولا نستبعد أنه لولا أولئك الثوار لكانت فرنسا استهانت به وقتلته كما قتلت فرحاة حشاد والهادي شاكر(لا سيما وأنه قد أفلت من الإعدام خلال محاكمات احداث 9 افريل 1938، فما كل مرّة تسلم الجرّة!) وكل هذا "نسيه" بورقيبة وشكّل لهم محكمة مخصوصة ليكون مصيرهم من الجبال الى الحبال!أما التهمة فكانت "التآمر ضد أمن الدولة والانضمام إلى عصابة متمردين ومسك السلاح دون رخصة" ولكن في الحقيقة كانت بسبب الإنحياز لبن يوسف!( خلال المحاكمة قال بعضهم إننا لم نكن نفرق بين بورقيبة وبن يوسف،وإنما كنا نظن بورقيبة "الوجه الدبلوماسي التفاوضي" وبن يوسف "الوجه العسكري")..وإنشقاق بن يوسف ورفضه للإستقلال الداخلي كان بورقيبة نفسه يقر بمشروعيته (قال أواسط السبعينات في محاورة مع كاتب فرنسي نشرها في كتابه-Bourguiba - :صراحة لقد كان رفضهم مبرَّرًا حين يقولون : أي إستقلال والقوات الفرنسية بالثكنات التونسية؟؟ إنها خطوة الى الوراء!!..).. أما الذي زاد جريمة إغتيال بن يوسف شناعةً فهو التوقيت الذي تمت فيه الجريمة:احداث بنزرت!!فهذا يعني أن سفك الدم التونسي كان متزامنًا بين بنزرت وفرنكفورت !..ورغم أن بن يوسف كان بكل تأكيد يخطط لنفس الجريمة، إلا أنّ الأجدر ببورقيبة كان التصالح معه في تلك المرحلة الخطيرة بدلا من انتهاز الفرصة لإغتياله،فبن يوسف كان حينها في موقف ضعف وغُبن وحرمان من تاريخه النضالي بعد إن تأكد صوابُ منهج بورقيبة وحصول البلاد على الإستقلال التام.فلو فعل بورقيبة ذلك لكان جنب البلاد تصدّعا مزمنًا لايبدو أنه سيلتئم!( وقد يقول قائل : بعد نجاح اسلوب بورقيبة في الحصول على الإستقلال الكامل فبن يوسف هو الذي كان عليه الإعتذار!فنقول: نعم هذا أيضا رأي معقول ،لكن لولا أن بورقيبة كان قد أعدم المقاومين، فبعده مبادرة التصالح من بن يوسف كانت مستحيلة !! ) والغريب هو أن بورقيبة أقر صراحة بالجريمة ووسّم منفذها -عبد الله الورداني-الذي صار بعدها معتدًّا بجريمته و يتصرف بشكل بلطجي بعد إن سمحوا له حتى بالإحتفاظ بمسدس الجريمة الذي هدّد به لاحقا الحبيب عاشور في الأسابيع التي سبقت احداث 26 جانفي 1978! (يقال أن بورقيبة تدخّل شخصيا لدى الحبيب عاشور ليتسامح مع الورداني !!). بورقيبة كان شديد القسوة ضد كل من يخالفه اوحتى من يرتكب خطأ! فقد نكّل بالعائلة الحسينية وحرمهم من ابسط مقومات العيش الى درجة أن فيهم من اضطر الى الإسترزاق بالأعمال "الوضيعة"(وهذه القسوة لا تقارن بحُسن تعامل الضباط الأحرار بمصر،رغم تكوينهم العسكري الخشن،فهم لم يجرّدوا الملك فاروق من الكنوزالكبيرة قبل رحيله بالباخرة،بل أدّوا له التحية العسكرية وأطلقوا 21عيارا مدفعيا بحسب المراسم المعهودة!..). ولا ننسى أيضا سجنه للطاهر بن عمار الذي وقّع على الإستقلال الداخلي ( الذي قال متحسّرا حين وضعوا القيد في يديه، ما معناه : هذه هي اليد التي وقّعت استقلال بلادكم! ) ثم ايضا سوء معاملته لمحمد مزالي ولعائلته وخاصة بنته وولده اللذان سُجنا مع المنحرفين، وخاصة احمد بن صالح الذي إتهمه بالخيانة العظمى وحُكِم بالإعدام، رغم أن بورقيبة والديوان السياسي كانوا مستبشرين مقتنعين بفكرة التعاضد بدليل خطابه الطويل ب-مؤتمر المصير- ببنزرت الذي إضاف خلاله إسم الإشتراكية للحزب.لكن بعد الفشل جعل من احمد بن صالح كبش فداء كما قال الهادي البكوش في مذكرات،وقد كان هوأيضا ضحية "الكوميديا سوداء" كما أشار..( وفي رأيي الشخصي،تجربة التعاضد ،رغم فشلها وشناعة المظالم التي اعقبتها، تؤكد إخلاص وحب بورقيبة للشعب! وتؤكد أيضا براءته من العمالة والتبعية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي يتهمه بها المزايدون!).. وفي الختام نعيد القول بأن بعض مساوئ حكم بورقيبة لا يمكن أبدا أن يحجب نضاله الكبير من اجل الإستقلال وبناء الدولة والنهوض بالشعب( رغم أنه أفرط في "حرية المرأة" التي سلبت الرجل حقه في العمل حتى في المقاهي المليئة بالشباب العاطل !!!).. أما نفور بورقيبة من التعددية الحزبية فقد تبينت الآن الحكمة منه،فاليوم هذه التحزبات أضاعت الإرادة الوطنية وصارت البلاد معبثا،هي حقيقة يدركها ويقولها غالبية الشعب!!... على كل حال هذه المحاكمة تُعَد نكرانًا للإستقلال في حد ذاته!..فالمفروض إذن هو إلغاؤها والإكتفاء فقط بمحاكمة أدبية لتصحيح كتابة التاريخ. مع التأكيد أيضا بأن كل الجرائم التي حدثت خلال الحقبة البورقيبية والنوفمبرية لا تساوي عشر ما حصل زمن حكومة الترويكا دون حساب ما فيه البلاد الآن من سقوط( أنظر مقالي: الشروق،هل تحتاج تونس هيئة 2 للحقيقة والكرامة).. وأخيرا نشيرُ الى أنه حتى دون محاكمة قضائية فمؤشرات عدة تؤكد أن جماعة "البورقيبين الجد"لا يقبلون المساس بتصحيح التاريخ ، فهذا عندهم بمزلة "الثالوث المحرّم".فهم لا يسمحون أن تُكشَف الجروحُ للشمس وللهواء النقي، وإنما يريدونها أن تبقى "تحت الفاصمه"... بقيْحها ودودها...!