مع بداية شهر رمضان من كل عام تنشط سوق الدراما التونسية في التنافس وتبدأ القنوات الفضائية الخاصة أو التابعة للدولة و ما يعرف بالقنوات الوطنية العمومية في التزاحم على عرض انتاجها الدرامي من المسلسلات الاجتماعية والفكاهية وعلى كسب ود المشاهد وتحقيق أعلى نسبة من المشاهدة لتحقيق أكبر الارباح من وراء الإشهار . ولكن مع قرب نهاية شهر الصيام يبدأ النقاد في تقديم مواقفهم من مختلف الأعمال الفنية المقدمة وتفتح الجرائد صفحاتها الفنية للتحليل والنقد وفي هذا الاطار ومواكبة لهذه الحركية الثقافية والفنية التي تشهدها الساحة الفنية التونسية نظم منتدى الجاحظ سهرة رمضانية يوم الثلاثاء 28 ماي المنصرم خصصها للحديث عن الدراما التلفزية التي قدمت في رمضان هذا العام وتقييم مختلف الأعمال الابداعية التي شاهدها المتفرج التونسي في محاولة لإثراء كل النقاش الذي تعرفه الساحة الفنية ولتأثيث هذه الندوة تمت دعوة ثلة من المبدعين كان من بينهم إكرام عزوز الممثل التلفزي و السينمائي و المسرحي و نجيب مناصرية المخرج بالتلفزة الوطنية وصابر سبتي الممثل المسرحي. في بداية هذا اللقاء تم التذكير بأن هناك تيارا فنيا ووجهة نظر سائدة تعتبر أن حرية الابداع لا تحتاج إلى رقابة من أي جهة كانت وأن الفن عموما لا يقبل برقابة ولا بمحظورات فهو حركة ونشاط حر لا يحكمه إلا قانون الجمالية والإبداع فالمبدع دائما ما يكون حرا ومتمردا ومعبرا عن نفسه وأفكاره وأحلامه ولكن مع هذه الخصائص التي يتميز بها العمل الابداعي كعمل حر وغير خاضع إلى أي سلطة مهما كانت من المجتمع او الايدولوجيا أو الدين بمختلف مرجعياته أفلا يحتاج الابداع إلى نوع من الرقابة حتى لا ينفلت ويتحول إلى فوضى وتهور وتهديد لأمن وسلامة المجتمع وحتى لا يتحول إلى نوع من التهديد للقيم المشتركة التي يعيش عليها المجتمع واتفق عليها أفراده ألا يحتاج الفن الى نوع من التوجيه حتى لا يصطدم مع طبيعة الثقافة التي يحيى عليها الناس ومع الذوق العام والآداب العامة للشعب على اعتبار وأن لكل مجتمع سلما من القيم المشتركة هي بمثابة الكتاب المقدس الذي لا يمكن لأي كان أن يخرج عنها أو أن يخالفها . هذه القيم المشتركة تجعل من الفنان والمبدع حرا في إطارها ومعبرا عنها وهنا يطرح إشكال آخر وهو هل على الفنان أن تعكس أعماله قيم المجتمع وهل هو ملزم أن يصورها ويدافع عنها ويحافظ عليها ؟ وهل على الفنان أن ينتصر لهذه القيم ويتبناها في اعماله ؟ أم أن الفنان عليه ان ينقد الواقع ويعري حقيقته بقطع النظر عن الأطر التي تحكم المجتمع ؟ وهنا يحيلنا هذا الكلام على قضية أخرى وهي قضية الدراما الواقعية أو ما يعبر عنه بتلفزيون الواقع وهو نوع من الابداع غايته التعبير عن الحياة الحقيقية والواقعية للناس كما هي في تفاصيلها اليومية ونقل ما هو مسكوت عنه ولا نتحدث به ولكن ما تمت ملاحظته بخصوص الأعمال التي قدمت في البرمجة الرمضانية لهذا العام هو أن أغلبها كان مبالغا في نقل هذا الواقع بحيث أتى على أحداث مضخمة وقام بصناعة واقع غير موجود أو قل هو موجود ولكن بنسبة ليست بالكبيرة ما أعيب على الانتاج التلفزي هو أنه حاول صناعة واقع غير موجود وقدم صورة عن المجتمع الكثير من الناس لا يتفق معها ويرونها مفتعلة كما تمت ملاحظة أن العملية الابداعية التي تقوم على الكثير من الخيال والحرية في التعبير قد تعمدت تقديم واقع متخيل عن المجتمع التونسي وغير موجود بالقدر الذي يجعل منه ممثلا لكامل المجتمع كما صورته بعض الدراما وهنا تأتي الخطورة للعمل الابداعي حينما يفرض عليك صورة لا تعكس حقيقة ما تعيشه أو صورة تزيف الواقع وتضخمه وتصنع واقعا غير موجود على أنه هو حقيقتنا فمثلا ما قدمه مسلسل أولاد مفيدة من حالة عن التفكك الأسري وما صوره من علاقات مهزوزة داخل البيت التونسي الذي تشقه مشاكل حادة وصلت إلى حد الاجرام وتعاطي المخدرات والقتل مع علاقات مجتمعية مشوشة وملوثة وما قدمه من صورة عن المرأة التي لا تكون إلا عاهرة او متمردة على الأسرة أو فاشلة في الحياة او متواطئة مع الاجرام ومهادنة للجريمة هي كلها صور لا تمثل حقيقة المجتمع والأسر التونسية والعلاقات داخل البيت التونسي فمن هذه الناحية بالغت الدراما التونسية في التعبير عن الواقع وجانبت الصواب حينما اعتبرت حالات قليلة تعيشها بعض الأسر وبعض الأفراد على أنها هي الحالة الغالبة وهي حقيقة المجتمع التونسي على اعتبار أن هناك واقعا آخر في تونس مختلفا بأكثر هدوء وأكثر استقرار وهناك صورا أخرى للأسرة والمرأة تعكس صور النجاح والتوفيق والريادة وتعكس حقيقتنا وتعبر عنا بكل صدق. في هذا اللقاء تم التطرق إلى موضوع الكتابة الفنية التي رافقت أغلب الأعمال الدرامية حيث تم تسجيل الضعف الكبير في كتابة السيناريو والضعف في الكتابة الدرامية التي سقطت في السطحية ولم تشد إليها المتفرج وفي الكثير من الأحيان سقطت في الإسفاف والتهريج والملل وقد أرجع المتدخلون هذا الضعف في الكتابة التلفزية إلى حالة التسرع التي باتت سمة كل الاعمال الدرامية في البرمجة الرمضانية حيث يبدأ التحضير والتفكير والتصوير أسابع قليلة قبل حلول شهر الصيام وهذا طبعا يؤثر على جودة الأعمال من حيث كتابة النص كما يعود هذا الخلل في كتابة السيناريو إلى فقدان وغياب الكتاب والمؤلفين الأكفاء الذين باتت الساحة الفنية تفتقدهم مما جعل القنوات التلفزية توكل هذه المهمة إلى بعض المكاتب التي أصبحت متخصصة في الكتابة الدرامية وحسب الطلب من دون خيال ومن دون الاعتماد على رواية أو قصة أو نص جيد كما هو دأب الكتابة الدرامية في السنوات التي سبقت الثورة وهذا الضعف جعل المخرج مضطرا ان يواصل الكتابة مع المؤلف وقت التصوير وأثناء الارتجال في التمثيل وفي هذا المستوى طرح السؤال حول مدى حاجة هذه الاعمال الدرامية الى رقابة قبلية للحكم على النصوص المقدمة إذ أنه ليس كل ما يقدم يصلح أن يتحول إلى عمل ابداعي يفيد الناس خاصة إذا كانت الجهة المتعهدة بهذه الأعمال الفنية الاذاعة والتلفزة الوطنية المحمول عليها تقديم أعمال ذات قيمة وجودة وبنصوص جيدة بعيدة عن التهريج والتفاهة. من النقاط الأخرى التي أخذت حيزا من النقاش والتحليل موضوع غياب الرؤية الفنية الذي ينتج عنها الوقوع في الارتجال والسطحية والابتذال والرداءة في علاقة بتقديم أعمال تشد المتفرج ولا تصدمه ولا تنفره من المشاهدة وأعمال تخاطب عقل وثقافة المواطن التونسي اليوم وترتقي بذوقه وتزيده معرفة وثقافة وهنا مرة أخرى يعود السؤال حول دور الفن والإبداع هل هو مطالب بالارتقاء بذوق الناس وبالتالي تحمل على عاتقه مهمة الاصلاح والتنبيه إلى الاخطاء ومعالجة الامراض المجتمعية ؟ أم أن الفن والفنان دورهما الاساسي كشف الحقيقة وإثارة السؤال وطرح المشكل من دون ان يقترحا الحل والمخرج ؟ من القضايا الأخرى التي نالت حظا من النقاش قضية الرداءة التي اكتسحت المشهد الاعلامي عموما والمجال الفني خصوصا من موسيقى ومسلسلات وسيتكومات وحصص تلفزية ترفيهية وهي كلها لا تقدم إلا الرداءة والسفالة وتعمل على الهاء الناس وتلهيتهم بمواضيع تبعدهم عن حقيقة مشاغلهم بل وتبتعد بالإضحاك والتسلية عن صورتها الحقيقة لتتحول مع هذه النوعية من البرامج ومع مجموعة من المنشطين الذين ابتلينا بهم إلى خطر يهدد المجتمع في أخلاقه وقيمه وثقافته التي يشترك فيها الجميع وتمثل اليوم القواسم المشتركة للعيش المشترك بل وتمثل إلى حد ما هويته الثقافية فهل نحتاج إلى مشروع ثقافي جامع والى سياسة ثقافية وطنية تنصهر فيها كل الاعمال الابداعية ؟ هل نحتاج الى ثورة ثقافية وثورة فنية لم تقع ولم تنجز ؟ هل نحتاج إلى جيل آخر من المبدعين والفنانين والإعلاميين توكل إليهم مهمة الابداع والارتقاء بالذائقة الفنية وتصوير الواقع من دون أن نشوهه أو أن نزيفه أو أن نخلق واقعا آخر لا يحاكي ما تعيشه حقيقة جيل آخر يتمم الثورة الثقافية التي تحتاجها الثورة السياسية التي انجزت جيلا من المبدعين يكون مستوعبا للحظة الثورية ومنخرطا في مشروع الثورة وحالما بتونس جديدة من دون رداءة ولا اسفاف ولا ميوعة ولا برامج تنتج البلاهة وتعمل على تخدير الشعب وإلهائه بعد إغراق الأعمال الدرامية والبرامج التلفزية والإذاعية بكم كبير من الأعمال المضرة بالثورة وبالمجتمع وبالإنسان الجديد الذي نريده مختلفا عن الإنسان الذي انتجته السياسة الإستبدادية وتربى على قيم الديكتاتورية وقيم الذل وثقافة والانكسار والفساد.