في إطار برمجتها الرمضانية نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود ندوة فكرية في سهرة يوم الخميس 23 ماي المنقضي اختارت لها عنوانا " أزمة التفسير التأويلية بين المعنى التاريخي وتحديات الراهن " استدعت لها الدكتور " عمر أوزوي " المفكر التركي المنتمي إلى مدرسة الاستشراق الألماني التي تشتغل على فهم النص القرآني من خارج السياق التاريخي وبالاعتماد على المجال اللغوي فالمقاربة التي يدافع عنها في فهم النص الديني تختلف عن المقاربة التاريخانية التي تعود إلى السياق التاريخي وإلى الملابسات التاريخية التي حفت بنزول الوحي لفهم معناه وهي مدرسة تقول بتاريخية النص وتعتبر أنه لا يمكن فهم القرآن إلا بالعودة إلى لحظة نزوله وزمن وقوعه في حين أن المنهج الذي يتبناه المحاضر يميل إلى فهم النص القرآني من خلال تفكيك ألفاظه ومعانيه وبالعودة إلى اللغة ومجالها الفسيح وإعادة القراءة ومناقشة كل مل انتجه المفسرون القدامى من معان انطلاقا من بنية النص وتركيبته وسياقه اللغوي فالإضافة المعرفية التي تعمل جامعة " غوتة بمدينة فرنكفورت " الالمانية التي ينتمي إليها على تحقيقها في مسألة تأويل المعنى القرآني هي مناقشة ما يمكن أن تسهم به العلوم النصية في إعادة بناء المعنى التاريخي للنص القرآني . ينطلق المحاضر في حديثه من إشكالية معرفية تقول بأن أزمة التفسير والتأويل عند المسلمين هي في معرفة كيف يمكن أن نجعل من القرآن نصا يخاطب كل جديد وفي أوقات وأزمنة مختلفة لذلك فإننا اليوم نحتاج إلى وضوح ذهني خاصة وأن القرآن قد خاطب المسلمين في زمن الوحي فالابتعاد بالنص عن سياقه القديم وابتعاد المخاطبين عن السياق الأول للوحي يؤدي إلى حصول الغموض في فهم النص القرآني لأن النصوص القديمة قيمتها في لحظة القراءة الأولى والأهم بالنسبة إلى القرآن هو الأسلوب في لحظة نزوله لقراءة ما يدور حوله. الأجيال الأولى من الصحابة لم تستشعر بأية صعوبة في التعامل مع القرآن وفهمه لأنها كانت شاهدة على لحظة نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم غير أن هذا الوضوح قد تحول إلى غموض مع جيل التابعين وتابع التابعين الذين شغلتهم قضايا أخرى وبعدت المسافة بينهم وبين لحطة التنزيل ولكونهم لم يعايشوا نزول الوحي ولم يحضروا لحظة تنزيله وقد زاد غموض النص مع الجيل الحاضر من المسلمين لاتساع الهوة الزمنية بين الزمن الحاضر والزمن الأول لنزول الوحي ولبروز قضايا أخرى راهنية انشغلوا بها والمطلوب اليوم هو مراجعة فهم هذا النص القرآني لنجعل منه قريبا من التاريخ الحاضر وذا صلة بظروف المسلمين الحاليين بما يجعل من هذه المراجعة القدرة على إضافة معان جديدة على النص القديم. لكن ما يحصل اليوم من نشاط تفسيري ومن عملية تأويلية للقرآن يمكن اعتباره قرآنا جديدا بعد تدخل القارئ الحديث فعملية تحرير القرآن من سياقه الأصلي واستبداله بسياق القاريء الحالي هي جهد من نتاج العلاقة المعاصرة لقارئ اليوم مع القرآن والسؤال الذي تثيره مثل هذه العملية التأويلية الحديثة هو معرفة هل من الضروري أن يحافظ النص القرآني على استقلاليته من تدخلات القاريء التعسفية ؟ وكيف يمكن أن نضمن عدم تدخل القارئ في فهم النص وتأويله ؟ يميز الامام الماتريدي بين مفهوم التفسير ومفهوم التأويل فالتفسير كان مرحلة عصر الصحابة من الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم وعايشوا لحظات نزول الوحي وكان تعاملهم مباشرا مع المنزل عليه لذلك كانت عملية التفسير لما عسر فهمه من الوحي تتم بصفة مباشرة من خلال الرسول صلى اله عليه وسلم أما التأويل فظهر مع عصر التابعين وبعد عصر الرعيل الأول من جيل الصحابة وهي مرحلة احتاج فيها المسلم إلى تأويل القرآن حتى يفهم معناه لبعد المسافة الزمنية بين عصرهم وعصر التنزيل الأول لذلك قال الماتريدي بأن التفسير للصحابة والتأويل للفقهاء.فعملية التأويل هي توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه والتفسير ذو وجه واحد والتأويل يحتمل وجوها عدة فكل آية لها معنى أصلي تم فهمه من قبل المرسل إليهم في عصر التنزيل هو المعنى المقصود من كلام الله والمأزق اليوم هو كيف يمكن أن نجعل الأجيال اللاحقة معنية بخطاب النص القرآني والحال أن هذا النص قد استعصى عليها فهمه ؟ ما نطرحه من منهج وطريقة لجعل القرآن مفهوما اليوم وما نقترحه لفهم نص الوحي بطريقة تجعله متلائما مع قضايا العصر هو اعتبار أن القرآن ظاهرة لغوية ذات طبيعتين واحدة شفوية وثانية كتابية خاصة و أن النص قد نشأ نصا شفويا ثم تحول إلى نص مكتوب في نفس الوقت فهو نص حي من جهة وجامد من جهة أخرى وبذلك كانت مهمة التفسير التعويل على المتانة اللغوية بين القرآن وقرائه الجدد ومهمته سد الفجوات لفهم القرآن دون حاجة إلى اللجوء إلى أدوات أخرى للفهم . ما يمكن قوله هو أن 60 % من التفسير هي روايات تعود إلى التابعين و 10 % يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم و 20 % يعزى للصحابة و 10 % من التفسير يعود إلى الصحابي ابن عباس . التابعين كانوا هم الجيل الأول من قراء القرآن حتى قال علي بن ابي طالب " القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال " وقد لعبت السنة دورا كبيرا في حفظ تفسير التابعين للقرآن واليوم لا بد من إعادة الاعتبار للفهم اللغوي للقرآن لربط الصلة بين الوحي ومعانيه الأصلية والجماعة الأولى القارئة له. في زمن التنزيل الأول كان القرآن يتبع السنة وكان مواكبا لتساؤلات الصحابة وإجابة لحاجياتهم وقضاياهم اليومية كانت الحادثة تقع فيسأل الصحابة عن حكمها عندها يتدخل الوحي. عملية عزل القرآن عن السنة وعن سياقه التاريخي ظهرت في وقت مبكر من أجل اكتشاف واختراع معان جديدة حيث برزت ظاهرة تعدد المعنى وكثرة أقوال التابعين والفقهاء وقد صور تفسير الطبري هذه الظاهرة حيث كان تفسيره جامعا للكثير من المعاني ولكن نجده بعد أن يذكرها يختار قولا واحدا لاعتقاده أنه هو المعني الأصلي. أما الرازي فقد كان شاهدا على تنوع المعاني ولكنه كان ساعيا إلى اختراع معنى آخر من خارج المعاني المذكورة بغاية الوصول هو الآخر إلى المعنى الأصلي فالآية الواحدة يمكن أن تحتمل معنيين مختلفين متناقضن لذلك كان هناك معنى باطني وآخر ظاهري. بالنسبة إلى القراءة الجديدة للقرآن وعلاقة القرآن بالواقع الحديث فإن هناك ردود فعل مختلفة ومتباينة حيث مفهوم القرآن التاريخي هو منهج ورؤية تعتبر أن الفهم الحقيقي للقرآن هو ذلك الذي يعتمد على الرجوع إلى الملابسات والظروف والسياقات التاريخية التي عايشت نزول الوحي والتي رافقت قوله وكتابته وفي هذا الإطار نجد أن كلا من الأصولية الإسلامية والحداثية العلمانية يتفقان في العودة إلى الظروف الأولى لنشأة القرآن والعودة إلى الواقع الأول لعملية التنزيل للتعامل مع الخطاب القرآني ففي حين تعتبر الأصولية الإسلامية أن العودة إلى الظروف التاريخية الأولى مهمة لفهم حقيقة الوحي من أجل استمراره اليوم فإن الحداثية العلمانية تعتبر أن العودة إلى الملابسات التاريخية للقرآن تجعلنا نقر بأن العودة إلى واقع القرآن الأول وزمانه لم يعد مفيدا وتجاوزته تطورات الحداثة وهما نظريتان يحكمهما فكرة الولاء إلى القرآن التاريخي لكن إلى جانب هذه النظرة المثبتة والملغية للقرآن هناك تيارات فكرية لها تأثيرها هي الأخرى منها تيار التقليدية الاصلاحية التي صاغت تمشيا لفهم القرآن جعله متواصلا في الزمن وصالحا إلى اليوم من خلال مقاربة لا تتبنى الفهم التاريخي للقرآن ولا تعتمد النظرية التاريخانية في فهم النصوص الدينية كما خضع لها النص المقدس عند المسيحيين وإنما من خلال العودة إلى اللغة والبناء اللغوي للتنزيل الأول كما ظهر أول مرة بما يعني العودة إلى البيان واللغة لفهم مقصد القرآن وهذا ما يجعل منه مفتوحا في الزمان ومتواصلا في التاريخ وصالحا إلى اليوم فما تقوم به المدرسة الاصلاحية هو اعادة بناء الفهم والمعنى من دون الالتزام بما قدم من حلول تفسيرية التي تم صياغتها في ظرف لغوي محدد واليوم القرآن يحتاج إلى بيان جديد من خلال محاورة لغته المولدة لمعان جديدة تلائم العصر والواقع الذي نحياه وهذا فعلا ما يقوم به المفكر فضل الرحمان في المشروع الذي صاغ به برنامجا للتأويل والفهم. المهم في هذه المقاربة أنها مخالفة للمقاربة التاريخية في فهم الوحي تقوم على محاورة اللغة للوصول إلى معنى جديد فالسياق التاريخي على أهميته حسب المحاضر فإنه قد ينتهي إلى عكس المعنى الأصلي للآية كما دل عليها بيانها اللغوي ويجعل القرآن مرتبطا في التاريخ بمن جاء يخاطبهم وبمن نزل عليهم وتفاعل مع ظروفهم مما يجعله لم يعد صالحا للأشخاص المخاطبين في عصرنا وعصور آخرى في حين القراءة اللغوية تجعل من النص الديني قابلا لأفهام معاصرة تمكنه من أن يصمد طويلا لتأطير أحداث راهنية أو مستقبلية فعملية توليد المعنى من خلال اللغة هي عملية أفضل من المقاربة التاريخانية في الفهم. وهذه المقاربة اللغوية تجعلنا لا نطمئن إلى كون القرآن قد قال كل شيء في زمن التنزيل الأول " وما فرطنا في القران من شيء " فحينما نقول بأن القرآن قد قال كل شيء فهذا يعني أنه لم يقل أي شيء وفتح الباب لاستنباط معان جديدة أخرى لقدرة اللغة على الانفتاح والتجدد ومثال ذلك كلمة " ثقفتموهم " في قوله تعالى " واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ..." البقرة / 191 فهمت هذه الآية تاريخيا أنه على المسلم أن يقتل غير المسلم أينما وجده وظفر به وأنه عليه أن يتتبع خطاه للنيل منه دون سبب فقط لمجرد كونه مختلفا عنا في الدين والحال أن الفهم اللغوي الصحيح يفيد أن الظفر والتتبع هنا يكون على أرض المعركة وفي ساحات الحرب وبمناسبة قيام الحرب لا غير فالسياق اللغوي يحيل على هذا الفهم وهذا المعنى من الالتقاء مع العدو في ساحة المعركة لقد فسرت هذا الآية تاريخيا في اتجاه واحد وأعطى لها معنى واحدا في حين هي مفتوحة لغويا على معان عدة فنظرية تحليل المعاني تجعلنا نستعيد المعنى الأصلي للقرآن في كونه جاء مقرا للتعدد والاختلاف وغير ملزم أن يعتنق الإنسان معتقدا بالغصب والإكراه وهذا هو المعنى الذي أحال عليه القرآن لمعنى كلمة " فتنة " في قوله تعالى " والفتنة أشد من القتل " البقرة / 191. وكلمة " الدين لله " الذي لا يقصد منها أن يكون كل الناس مسلمين وإنما القصد أن تكون عملية المحاسبة من أنظار الله وحده فالسياق البياني والسياق اللغوي مهم في عملية إعادة بناء المعنى والفهم للنص القرآني وهو مشروع فكري يوفر لنا نتائج بحث مختلفة عن الفهم التاريخي للنص الديني الذي اعتمد في فهم الانجيل ويطبق اليوم على القرآن فعملية النقد التاريخي للإنجيل لا تفيد كثيرا مع القرآن الذي هو بطبعه مفتوح في الزمان وغير خاضع لقراءة تاريخية وحيدة وإن فسر العلماء القرآن بالرجوع إلى أسباب النزول التاريخية فهي دوما تبقى محاولة للفهم لا غير مع وجود إمكانيات أخرى كثيرة للفهم والتفسير فالتفسير الجديد من هذه الزاوية هو حارس للقرآن التاريخي بعد أن استولت عليه التفاسير وليس صانعا لمعان جديدة بعد حصره في فهم واحد والتأويلية النصية أو اللغوية تعمل على تحرير خطابه بما يعيد له معناه الأصلي في لحظة نزوله . فالمدرسة التاريخانية تعود إلى الملابسات التاريخية لرفض القرآن والقول بعدم صلوحيته للحاضر وعدم حاجة العصر إليه طالما أن الآيات قد تحكمت فيها ظروف تاريخية أوجبت نزول الحكم كما هو الشأن في التعامل مع أحكام قطع يد السارق في حين أن المدرسة الاصلاحية تذهب إلى السياق اللغوي لسبر أغوار النص ولفهمه وفهم تطبيقه لا إلغائه . فالفهم التاريخي يلغي النصوص والفهم الاصلاحي يحافظ عليها من خلال فهم كيف طبق الحكم حتى يفتح له مجالات أخرى لتواصله فالأولى عطلت النص من زاوية كون النص لم يعد صالحا تاريخيا والثانية عطلت النص لأن شروط تحققه لم تعد متوفرة والاثنان تحكمت فيهما النظرة التاريخية في حين أن المدرسة النصية اللغوية لا تعول كثيرا على البعد التاريخي وإنما تؤسس فهما ومعنى مختلفا تدعى أنه هو الأقرب إلى النص الأصلي وهو اتجاه يجعل للنص قدرة على الفهم فاليد في آية قطع يد السارق لا تعني اليد الحقيقية وإنما تعني أن السارق عقابه أن لا تقبل له شهادة في المستقبل فالسارق بهذا المعنى يعد في عداد الفاسق الذي لا تقبل له شهادة كما أن كلمة قطع لا تعني البتر وإنما تعني التوقف والتعطيل عن فاعليتها واليد لا تعني اليد الفيزيائية وإنما تعني القوة التي جعلت السارق يسرق بما يجعل من العقوبة هي تعطيل لهذه القوة بأي شكل من أشكال التعطيل كأن يحبس مثلا أو يعاقب بعقوبة أخرى يقررها المجتمع في زمن من الأزمان. وعموما ما تقترحه هذه المدرسة الاستشراقية التي ينتمي إليها هذا المفكر في فهم النص القرآني هو إعادة بناء للنص الأصلي قبل أن يطغى عليه التفسير والتأويل الذي أفسد معناه الأول كما نزل لحظة تنزيله في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما تدعو إليه هو أن يعود المسلم إلى قرآنه مباشرة ليكتشف معانيه من خلال اللغة والبيان والمعاني والسياق اللغوي والتأويل للكلمات من منظور اللغة بما يجعل منه نصا مقبولا في زماننا ويستجيب إلى العصر الراهن وصورة المسلم المعاصر وهي مدرسة تقول بأن الرسالة مطلقة والتشريعات فرعية وأن الأحكام يمكن فهمها من خلال اللغة لتعطي معنى حديثا لكنه هو المعنى الأصلي والأول لا يؤدي إلي إلغاء التشريعات كما فعلت المدرسة التاريخانية حينما اعتبرت أن الأحكام في القرآن لها طبيعة تاريخانية ومحكومة بملابسات زمانها وبالتالي يمكن تجاوزها كلما تغير الزمان وتبدلت الأحوال.