نعود اليوم إلى التصريح المثير الذي أدلى به سفير الاتحاد الأوروبي بتونس قبل مغادرته البلاد إلى صحيفة " لوموند " فرنسية والذي لم يعجب محتواه جانبا من السياسيين والإعلاميين التونسيين الذين رأوا فيه تدخلا منه في الشأن الداخلي، في حين أن الرجل لم يزد عن قول الحقيقة بعد أن عرى واقعنا المرّ حيث اعتبر أن معضلة البلاد الرئيسية ومشكلتها الأولى التي تمنعها من التقدم والتطور هي أن البلاد محكومة من طرف عدد من العائلات النافذة ماليا والمهيمنة اقتصاديا والمتحكمة في مفاصل التجارة وتسيرها لوبيات مالية وراءها رجال أعمال نافذين وأشخاص آخرين يحتكرون التجارة الموازية والاقتصاد غير المنظم فضلا عن لوبيات قطاعية تمثل قوة ضغط على الحكومة التي لم تقدر على ترويضها وإخضاعهما إلى قوانين البلاد بعد ان أصبحوا يمثلون تهديدا جديا وتحولوا إلى دولة موازية داخل الدولة الأصلية وهذه اللوبيات القطاعية هي اليوم محمية من طرف نقابات قطاعية أبرزها لوبي أطباء الاختصاص هذا القطاع الذي بات اليوم قوة ضاربة وغير منسجم مع الوضع العام الذي عليه البلاد وهي تعيش مرحلتها الانتقالية بكثير من المخاطر وغير مراع لظروف الناس ويفكر بعقلية الربح والخسارة ومنطق تقديم المصلحة المادية الفردية على مصلحة المجموعة الوطنية ولعل الترفيع الأخير الذي حصل في أجرة أطباء الاختصاص خير دليل على ما نقول بعد أن تجاوزت الخمسين دينارا لتصل إلى حدود السبعين دينارا في وقت بات فيه الكثير من الناس يشكون من تدهور مقدرتهم الشرائية وعدم قدرتهم على دفع أجرة الطبيب العام فما بالك بطبيب مختص من دون أن تحرك الحكومة ساكنا لخشيتها من ردة فعل هذا اللوبي القوي جدا . إن وراء هذا الاستحضار الذي تعمدنا القيام به لهذا الحديث عن وجود عائلات نافذة ماليا واقتصاديا وعن تحكم لوبيات قطاعية مؤثرة جدا معلومات عن معارضة شديدة يعرفها تحقيق مشروع تنموي تحتاجه جهة القيروان يقف وراءها لوبي قطاعي وأن مستشفى جامعي ينتظره أهالي القيروان بفارغ الصبر تقرر أخيرا بناؤه في منطقة المنصورة الواقعة بمدينة القيروان الجنوبية سوف يغير من وجهة الولاية يعرف معارضة من طرف أطباء الاختصاص المتواجدين بمقر الولاية الضاغطين على المسؤولين لثنيهم عن انجاز المشروع بداعي تضرر مصالحهم المالية وما يمثله هذا المشروع الصحي الكبير الذي تحتاجه الجهة من خطر على وضعهم المالي بعد أن يكون المستشفى الجامعي قد استقطب كل حرفائهم . ما انقذ هذا المشروع الهام وما جعل السلط تتعامل مع الفيتو الذي رفعه أطباء الاختصاص بكثير من الهدوء ودون انصياع إلى موقفهم الرافض هو أن هذا المشروع ممول من طرف الصندوق السعودي للتنمية الذي منح الدولة التونسية هبة قدرها 85 مليون دولار خصصها لهذا المستشفى مما جعل الحكومة التونسية لا تجد من حل إلا انجاز ما تم الاتفاق عليه مع الطرف السعودي ولكن كيف كان سيكون عليه الحال لو أن الجهة المانحة كانت دولة قطر أو دولة تركيا ؟ ربما لو كان الممول جهة أخرى غير السعودية لرأينا حينها وضعا آخر وتصرف آخر من طرف الأطباء الذين اذعنوا أمام الاصرار السعودي على تنفيذ المشروع . ما أردنا قوله مع هذه الوقفة القصيرة مع هذا المشروع الصحي الذي تنتظره مدينة القيروان بفارغ الصبر ومنذ سنوات حتى يخفف الكثير من المعاناة عن السكان ويخفف عنهم مشقة الانتقال إلى المستشفى الجامعي بسهلول بمدينه سوسة ويخفف الضغط على هذا الأخير بعد أن يتوفر لسكان القيروان مستشفى خاص بهم هو أن ما حصل مع هذا المشروع من محاولات لتعطيل بنائه من قبل لوبي أطباء الاختصاص هو صورة من صور كثيرة لتحكم النزعة الفردية وهيمنتها لدى الكثير من القطاعات التي باتت تقدم مصلحتها الخاصة قبل المصلحة الوطنية وتعلي من المصلحة المادية الشخصية قبل مصلحة المجموعة الوطنية وهي عقلية باتت اليوم منتشرة بكثافة وتمثل تهديدا وخطرا على فكرة الأمة التونسية الواحدة والمصلحة الوطنية المشتركة فثقافة الهيمنة وتقديم الخاص على العام اتضح اليوم أنها هي من يوجه تصرفات المسؤولين اليوم و من يحكم في البلاد. لقد كان من المفروض أن يفرح الجميع بهذا الانجاز الطبي الذي سوف يوفر خدمات طبية تحتاجها الجهة ويسمح للسكان من تلقي العلاج الضروري في ظروف طيبة من دون مشقة ولا عناء كبيرين كما كان من المفروض أن لا يجد هذا المشروع رفضا من قبل أطباء الاختصاص طالما أن المستشفى سوف يحقق تعاونا جديدا بين القطاع العام والقطاع الخاص وتكاملا بين الاثنين في قطاع الصحة يعود بالنفع العام على الأهالي .. لقد كان من المفروض أن لا يفكر الأطباء في مصلحتهم الخاصة فقط وأن يقدموا مصلحة الناس والتخفيف من معاناتهم قبل التفكير في أرباحهم الخاصة . لذلك نحمد الله أن كانت الهبة المخصصة لبناء هذا المستشفى متأتية من المملكة السعودية ولم تكن قطرية أو تركية وإلا لرأينا تعطيلا لهذا المشروع وتجييش الكثير من الاعلاميين للوقوف إلى جانب لوبي أطباء الاختصاص بعد ان تشن الحرب على الجهة المانحة والداعمة للمشروع . . فهل أخطأ سفير الاتحاد الاوربي في تصريحاته التي أغضبتنا؟