لو بقي الرئيس الباجي قائد السبسي حيّا لكانت الأمور قد سارت على عكس ما هي عليه الآن ولكنا قد رأينا مشهدا سياسيا مختلفا وفق صيغة مختلفة يكون فيها رئيس الحكومة يوسف الشاهد أبرز المستفيدين بعد تراجع شعبية الرئيس الباجي نتيجة الأداء المهزوز الذي ظهر عليه في تناوله لمختلف الملفات التي يمسك بها خاصة وأن جميع استطلاعات الرأي التي أجريت أسابيع قليلة قبل رحيله قد سجلت تراجعه الكبير على حساب شخصيات أخرى ، غير أن القدر والإرادة الالهية أرادت أمرا آخر بعد تعجيل وفاته التي كادت أن تربك المشهد السياسي ولكنها أعادت توزيع الأوراق من جديد وأعادت ترتيب الحسابات السياسية والتحالفات والاتفاقات والمفاهمات. ما حصل مع وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي أن هذا الأخير قد استعاد بريق صورته التي اهتزت كثيرا نتيجة تداعيات سياسة التوافق التي انتهجها وتدخله في الشأن الحكومي وعزمه تنقيح الدستور وتغيير النظام السياسي بما يسمح له بصلاحيات أكثر ومخلفات تشقق الحزب الذي أسسه والذي يحمله الجميع كل ما عرفته البلاد في فترة حكمه من ترد للأوضاع وكل النكسات والخيبات التي حصلت وبذلك تحول من رئيس كان من المنتظر أن يخرج من الباب الصغير إلى رمز من رموز البلاد الخالدة إلى درجة أن البعض قد جعل منه متقدما على الرئيس الحبيب بورقيبة بعد نعته بالزعيم الأوحد الذي قاد البلاد في ظرف صعب في عملية استحضار لكل الثقافة التي تكرس عقلية الرجل الأوحد الذي لا قبله ولا بعده . إن الخاسر الكبير من حدث الوفاة هو رئيس الحكومة الذي عادت عليه وفاة الرئيس الباجي وبالا وأفسدت مخططه و كل ما رتبه للوصول إلى قصر قرطاج في صفقة تم الكشف عنها مع حركة النهضة التي اتفقت معه على اقتسام الحكم بحيث يكون لها البرلمان ورئاسة الحكومة وتكون الرئاسة من نصيبه ليتواصل الوفاق بين حركة النهضة وحزب تحيا تونس ليحكما معا لسنوات غير أن الأقدار شاءت أمرا آخر ليتوفى الباجي في وقت غير منتظر وتنقلب كل الأمور رأسا على عقب وتتراجع شعبية الشاهد التي كان نجاحه مرتبطا بصراعه مع رئيس الدولة ومستفيدا من حضور هذا الأخير وأدائه الضعيف . إلى جانب ما حصل من بعثرة أوراق الشاهد وتراجع حظوظه لنيل الرئاسة فإن وفاة رئيس الدولة قد عرت صورة وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي الذي تم تقديمه للشعب على أنه الشخصية المثلى وأنه رجل الدولة المنضبط والمتفاني في خدمة البلاد وصاحب اليد النظيفة وهذه الصورة التي راجت عنه قبل وفاة الباجي كان رئيس الدولة وراءها فهو الذي اشتغل بكثافة على إخراجها في أحسن مظهر وجعل منها الشخصية الأولى في البلاد من بعده إلى درجة أن هناك من يقول بأن الباجي قد أوصاه على البلاد بعد موته ؟ ! غير أن ورحيل الرئيس الباجي قد عرى هذه الشخصية التي فشلت في أول ظهور إعلامي لها بضعف الأداء وضعف التواصل وبعدم القدرة على الكلام المسترسل وتقديم الأفكار الواضحة ليكتشف الشعب شخصية مرتبكة مهزوزة تفتقد لمواصفات القائد وتزداد هذه الحقيقة وضوحا من كون الزبيدي ليس هو الشخصية المثلى لدخول قصر قرطاج ما قاله أحد القيادات في المؤسسة العسكرية بخصوص الدور الذي لعبه الزبيدي خلال مروره بوزارة الدفاع حيث اعتبر أنه من العيب أن تنسب كل النجاحات التي تحققت في محاربة الإرهاب والقضاء على العناصر الارهابية إلى الوزير الزبيدي حيث أن كل الفضل وكل ما تحقق من نجاحات يعود إلى قيادات الجيش والفرق التابعة للمؤسسة العسكرية والفرق الأمنية وخبرة وكفاءة المسؤولين العسكريين وأضاف بأن الزبيدي لم يفعل شيئا للمؤسسة العسكرية وإنما الشخص الوحيد الذي أفادها هو الوزير محمد جغام - تولى حقيبة الدفاع في سنة 1995 - وأن الجيش يحتاج وزيرا مدنيا للتدليل على أن المؤسسة العسكرية وفق النظام التونسي هي تابعة للسلطة التنفيذية لا غير في إشارة إلى أن وزير الدفاع هو عادة شخصية إدارية دورها غير مؤثر مقارنة بالقيادات العسكرية الفعلية . غير أن اللافت للنظر أن حدث وفاة الرئيس الباجي قد خدم صورة عبد الفتاح مورو وأعلى من شأنه خاصة وأن الصورة التي أظهرته ماشيا على قدميه وهو يتبع الجنازة مطرق الرأس وفي خشوع قد أفادته كثيرا وجعلت الكثير من التونسيين يعجبون بهذا السلوك .. ما حصل مع وفاة الباجي أنها حددت لنا صورة الرئيس المرتقب وصنعت لنا أنموذجا " موديلا " للرئيس الذي يترقبه التونسيين. لقد كانت وفاة الرئيس فرصة لتجعل الاعلام يشتغل بكثافة على شخصية الباجي قائد السبسي وإبراز خصاله التي جعلت منه مثالا للشخصية التونسية في كل أحوالها وخصائصها وما حصل من تركيز على شخصية عبد الفتاح مورو ومقارنتها بشخصية الباجي واعتبار الثاني يشبه الأول في الكثير من الخصال خاصة ما تعلق بالطابع التونسي وطريقة الكلام وطريقة الحوار وتقارب الثقافة وتشابه السلوك والانتماء إلى نفس البيئة - الحومة العربي حيث أن كلاهما يقول عن نفسه أنه ولد " الربط "- فالاثنان يشتركان في طابع الطرافة والدعابة والليونة كل ذلك جعل الكثير من المراقبين يعتبرون أن عبد الفتاح مورو هو الشخصية الأقرب الى صورة الموديل أو الانموذج الذي صنعه الباجي عن صورة رئيس الجمهورية الذي يسمع الجميع ويقبل بالاختلاف مع الجميع ويحقق التعايش المشترك مع كل أفراد الشعب وله المقدرة على تمثيل كل التونسيين والرئيس الذي يجمع أكثر مما يفرق . .