مما ورثناه عن النظام القديم أن الدولة لا تتحرك لصالح الفئات الفقيرة والجهات المهمشة إلا في المناسبات الانتخابية ومما علق بأذهاننا من زمن الاستبداد أن الجهات الحكومية لا تلتفت لتحسين الخدمات العامة وتلبية مطالب الناس إلا بمناسبة كل استحقاق انتخابي لذلك بقيت إلى اليوم جهات بكاملها محرومة من التنمية ومهمشة ولم تتحسن حالها حتى تبقى دوما خزانا انتخابيا يقع توظيفه في عملية مقايضة قذرة وعملية شراء للذمم من خلال وعود وهمية لم تتحقق يوما . ويبدو أن هذه العادات السيئة وهذا السلوك الانتهازي قد تواصل مع الثورة ولم يقدر بعض السياسيين التخلص منه بل ربما تحول إلى ثقافة سياسية تراهن عليها بعض الأحزاب والحال أنه كان من المفروض أن تكون الثورة قد قطعت مع هذا السلوك السياسي لتتحول المنافسة السياسية نحو تقديم البرامج والحلول والأداء الأفضل غير أن ما تم ملاحظته في المدة الأخيرة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية أن حكومية قد اتخذت جملة من القرارات و الاجراءات فيها الكثير من الشعبوية في محاولة لاستمالة الشعب نحو مرشح حزب الحكومة وهي اجراءات جاءت مخالفة لقاعدة المساواة بين كل المترشحين وفيها إخلال بنزاهة العملية الانتخابية من خلال توظيف وسائل الدولة واستعمال أدواتها في الدعاية الانتخابية. ما تمت ملاحظته في الآونة الأخيرة أن حكومة السيد يوسف الشاهد قد اتخذت جملة من اللاجراءات الهدف منها تلميع صورته باعتباره أحد المرشحين في سباق الرئاسة في محاولة لاستمالة جزء من الرأي العام للتصويت لفائدته و آخر هذه الاجراءات التي تم اتخاذها والتي يبدو ظاهرها في خدمة الناس وغايتها تحقيق سلامتهم و راحتهم حتى وإن كان فيه اضرار بالمالية العمومية القرار المفاجئ المتعلق بغلق مصنع " السياب " بصفاقس وهو وحدة متخصصة في انتاج مادة الفسفاط الرفيع و يشغل حوالي 600 عامل سيجدون أنفسهم بعد غلقه في وضع البطالة رغم أن الحكومة قد تعهدت بصرف أجورهم ومستحقاتهم . في الظاهر يبدو أن هذا القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة بغلق المصنع في طريقه الصحيح ويستجيب إلى مطلب قديم كان الأهالي قد طالبوا به بسبب نشاطه الملوث للبيئة وخطره على حياة الناس وسلامة عيشهم لذلك كان هذا القرار بالنسبة للبعض قد جاء يخفف من حالة التلوث التي تعرفها مدينة صفاقس غير أن الحقيقته هي على العكس من ذلك حيث أنه قرار قد اتخذ في ظرف سياسي حساس والبلاد على مشارف انتخابات رئاسية وتشريعية ومثل هذا القرار قد يفهم منه إجراء جاء في مسار انتخابي ولخدمة أهداف انتخابية ولاستمالة جزء من الشعب من خلال الاستجابة إلى مطالبهم حيث يرى فيه صورة من التحايل السياسي وتوظيف آليات الدولة لصالح مرشح حزب الحكومة . وهو قرار قد عد من جانب آخر اعتباطيا و قد اتخذ بطريقة غير مدروس وفيه رائحة دعاية انتخابية وتوظيف سياسي فغلق وحدة الانتاج هذه والتي تنتج في مادة رفيعة من الفسفاط كان مطلب الأهالي منذ وقت طويل بجهة صفاقس لطبيعته الملوثة للبيئة وما يكتسيه من خطورة على حياة وسلامة السكان إلا أن غلقه بهذه الطريقة ودون مراعاة لتداعيات هذا الغلق على المكتسبات الاجتماعية للعمال ومن دون التفكير في مصير المئات من العائلات التي سوف يجد القائمون عليها أنفسهم في وضع البطالة ومن دون عمل. وهو قرار اعتباطي لتداعياته الخطيرة على الاقتصاد التونسي جراء الالتزامات والتعهدات التي قطعتها الدولة التونسية على نفسها داخليا وخارجيا تجاه الأطراف المتعاقدة معها و الخسارة الكبيرة التي سوف تحصل للمالية العمومية نتيجة توقف المصنع عن التصدير في وقت تشكو فيه الدولة عجزا في ميزانها التجاري نتيجة تراجع التصدير وارتفاع التوريد وعجزا آخر في الاستجابة إلى النفقات العامة لقلة موارد الدولة وضعف مداخيلها بعد أن بلغ عجز الميزانية حدود 5.5% والمنطق يفرض أن لا تتخذ الحكومة من القرارات ما يزيد من تعميق أزمتنا المالية. لقد كان من الأجدى على الحكومة أن تتخذ مثل هذا القرار تلبية لمطلب شعبي على خطورته على الاقتصاد والمالية العمومية قبل هذا التوقيت وقد كان من الأجدى على رئيس الحكومة أن يستجيب لهذا المطلب الشعب بغلق مصنع " السايب " قبل الآن إذا كان فعلا حريصا على راحة الناس وسلامة بيئتهم أما أن يتم غلق مصنع بهذه الأهمية أسابيع قليلة قبل المحطة الانتخابية الرئاسية فإن ذلك لا يمكن أن يفهم منه إلا دعاية انتخابية وتوظيفا سياسيا واستغلالا لأدوات ووسائل الدولة لخدمة مرشح حزب الحكومة فيه اعتداء صارخ على مبدأ المساواة بين جميع المتسابقين وخضوعهم إلى نفس الشروط ونفس الظروف علما وأن قرار رئيس الحكومة بغلق المصنع قد جاء مخالفا لقرار وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة بأن النشاط الحالي لمصنع " السايب" غير ملوث وهو متحصل على التراخيص اللازمة ؟ !