يوم 25 أوت-أغسطس 1992 كان يوم ثلاثاء صيفيا عاديا في قرية (شفروز) الجميلة في ضواحي باريس و كنت أسكن بيتا قديما و كان إبني (الطيب) ينام هادئا مطمئنا وهو في سنته السادسة من العمر. على الساعة السابعة سمعنا رنة جرس الباب إلا أن المفاجأة هذه المرة كانت من الحجم الثقيل فإن بالباب شرطيين من الشرطة العدلية الفرنسية مكلفان بإيقافي على ذمة طلب جلب تقدمت به « السلطات » التونسية عبر الأنتربول و في الحقيقة لم أتوقع مثل هذا الإيقاف و لم أحتط له إستباقيا بطلب اللجوء السياسي مثلا فقد كنت أعتقد أن بلاهة الطاغوت التونسي لها حدود وأن الطاغية يدرك بأن فرنسا دولة قانون و لديها مؤسسات دستورية تتجاوز التعاطف السياسي لتحمي الأبرياء الملتجئين لحماها و الغريب أن هذا الطلب التونسي جاء بعد ستة أعوام من خروجي من تونس و السبب هو أن الرئيس المخلوع كان يعتقد أو لديه معلومات بأنني مع الصديق محمد مزالي رئيس حكومة تونس المنفي مثلي (رحمة الله عليه) و أحمد بنور وزير الدولة للدفاع ثم للداخلية المناضل الصامد ضد الطاغوت والمنفي مثلي أيضا أننا الثلاثة إشتركنا في توريط شقيق الرئيس المنصف بن علي في قضية مخدرات بباريس حيث حوكم بإحدى عشر سجنا و قبض عليه في مطار باريس متلبسا بتهريب أموال ترويج المخدرات و لكنه غادر التراب الفرنسي بتواطؤ مشترك بين جهازي الدبلوماسية والأمن في البلدين. المهم كانت «جريمتي الحقيقية» و جريمة مزالي وبنور هي مقاومة الفساد المتفشي في أعلى هرم السلطة أما الملفات الكيدية التي طبخها لنا «وزير الظلم» المسمى رسميا «وزير العدل» عبد الرحيم الزواري و القاضي المسخر حسن بن فلاح فهي ملفات تتعلق بسوء تصرف واختلاس أي من نوع قضايا الحق العام التي تبدو و كأنها لا علاقة لها بالسياسة وهي القضايا التي طالت كل المقاومين للطاغوت في ذلك العهد علمت بعدئذ أن عبد الرحيم الزواري هو الذي أقنع بن علي بأنه يستطيع جلب مزالي و القديدي و بنورمكلبشين من فرنسا خاصة و أن جهاز أمن الدولة نقل لبن علي أني ألقيت محاضرة في فضاء (لوبورجيه) أمام عشرة الاف مسلم اجتمعوا ضمن مؤتمر الجمعيات الإسلامية في أوروبا و كانت المحاضرة حول الوحدة الإسلامية. وهو ما أثار ضدي في ديسمبر 1991 موجة من شتائم الإعلام الفرنسي اليميني المتطرف نقلتها « بأمانة » الصحف التونسية كبرهان على ما أسمته " إنتماء القديدي للتيار السلفي النهضاوي" و لنعد إلى يوم 25 أغسطس 1992لأقص حكاية الإيقاف فقد أخذني محافظ الشرطة (لوجندر) و زميله (فوكاد) لمحكمة (فرساي) بعد أن انحنيت على سرير إبني و قبلت جبينه وهو نائم مودعا قبل مواجهة مصيري المجهول.و كانت المفاجأة في بهو المحكمة التي وصلناها الساعة الثامنة : جموع غفيرة كانت في إنتظار قدومي لمساندتي و شد أزري و توجيه صفعة للنظام والسر هو أن علم أصدقائي بخبر إيقافي فهرع للمحكمة قبلي رئيس حكومة تونس السابق صديقي محمد مزالي و رفيق الكفاح و الوزير أحمد بنورو معارضون توانسة شجعان من بينهم د. أحمد المناعي الخبير الأممي و د. منذر صفر اليساري النبيل و د. مجيد بودن المحامي والمضطهد و جاء من شرفاء الفرنسيين (روبير فردييه) رئيس المنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان و (ويليام بوردون) المحامي و المدافع الشرس إلى اليوم عن كل ضحايا القمع في العالم العربي كما جاء صحفي من وكالة (فرانس برس) الرسمية للأنباء الذي أذاع برقية فورية باعتقالي و تعرضي للقتل في حال تسليمي للنظام.وللأمانة فقد هندس كل هذه التعبئة صديقنا طيب الذكر رحمة الله عليه علي السعيدي الذي أغتيل سنة 2003 في تونس في ظروف غامضة وهو الذي جند من أجلي رجلين فرنسيين شهيرين يومئذ هما الكاتب (جيل بيرو) و رجل الكنيسة بكاتدرائية (إفرو) المنشق و المعروف بمواقفه المشرفة (منسنيور جاك غايو) وعندما شاهد حاكم التحقيق السيد (دوجاردان) هذا الحشد الكريم يلفني و يغمرني بتعاطف صادق بدأ يداخله الشك في أن قضيتي سياسية و أن نظام تونس تحرك بشكل كيدي و لكن المنقذ الحقيقي لي من هذه المؤامرة كان صديقي الوزير الفرنسي (برنار ستازي) الذي هاتف زميله وزير العدل (ميشال فوزال) و شرح له خفايا العملية فأصدرالوزير لوكيل الجمهورية بمحكمة (فرساي) أمرا بإطلاق سراحي وهكذا كان فتهللت وجوه الحاضرين و هلت علي التبريكات بالنجاة من مخالب وأنياب عصابة السوء و خرجت من قصر العدالة مقتنعا بأن الله سبحانه يحق الحق و يزهق الباطل و بأن نصر الله قريب و بأن العاقبة للمتقين. فأغلب من ظلمونا و شردونا و أخرجونا من بيوتنا بغير حق هم اليوم إما في السجون أو في المنافي أو موصومون بعار السكوت عن الحق غفر الله لهم و لنا. ومنذ ذلك اليوم بدأت قصة معاناتي الطويلة مع أنتربول التي استمرت عشرة أعوام لأنني كنت مطلوبا في كل مطارات العالم ما عدا مطارات فرنسا و دولة قطر التي أوتني و أكرمت مثواي و نصرتني على الطغمة.