حين نتابع مواقف المترشحين لرئاسة تونس هذه الأيام لا نجد أثرا للاهتمام بقضايا بلادنا الجوهرية وهي تعاني من نمط تنمية وثقافة مفروض عليها من صندوق النقد الدولي وأمم أخرى تريد إبقاءها في بيت الطاعة. يسألني عادة بعض الشباب مشكورا كيف أوفق بين اهتمامي الأكاديمي بشؤون الاسلام وبين انتمائي منذ 1962 الى حزب الزعيم بورقيبة التونسي ونشاطي في ذلك الحزب لسنوات طويلة. وأنا أتفهم تساؤل هؤلاء الشباب، لكن أرى من واجبي أداء شهادة عن عصر لم يعيشوه وعن مرحلة لم يعرفوها الا بالسماع، عسى أنير في وجوههم قبسا من نور الحقيقة حول جيلي وحول التحولات الكبرى التي عاشتها بلادنا والعالم العربي والأمة الاسلامية قبل أن يولد أكثرية هذا الشباب. أنا ولدت في القيروان في نفس البيت الذي بناه جدودي القادمون من قبيلة قديد والتي ما تزال الى اليوم بين مكة والمدينة في الحجاز وجاء جدي الأول مع الفاتح موسى بن نصير في سنة 711م حسب ما كتبه المؤرخ المرحوم حسن حسني عبد الوهاب، وكان جدي الذي تلاه اسمه أحمد القديدي كان وزيرا عند ابراهيم بن الأغلب الثاني الذي لقب بالسفاح وثار عليه جدي هذا وقتله الحاكم الجائر شر قتلة كما ورد ذلك في صفحات 108 وما بعدها في الجزء الأول من كتاب اتحاف أهل الزمان للعلامة المؤرخ المصلح أحمد بن أبي الضياف. ثم جاء جدي الثالث وهو القائد العسكري سالم القديدي ومقامه يزار الى اليوم في القيروان و المهدية وهو الذي توفاه الله شهيدا حين جهز جيشا قيروانيا للتصدي لملك فرنسا لويس التاسع في قرطاجة و أحرق أسطول الملك الصليبي في ميناء المهدية لأن هذا الملك الملقب بالقديس لويس كان قائد جيش الحملة الصليبية و كان سيمر الى بيت المقدس من تونس، واستشهد هذا الجد في معركة عام 1270م مع مجموعة شهداء هبوا لصد الصليبيين لأن الاسلام كان جنسيتهم و الجهاد كان واجبهم. وعندما ولدت ونشأت في ظلال هذا التاريخ على بعد أمتار من جامع عقبة بن نافع كانت الصورتان اللتان فتحت عليهما عيني في غرفة المجلس في بيتنا هما صورة الملك الشهيد المنصف باشا باي وصورة الزعيم بورقيبة باللحية الكثة في منفاه بالمشرق العربي. لأن والدي رحمه الله كان كجل أبناء جيله وطنيا بسيطا يحلم بالاستقلال ويساند الزعيم المجاهد من أجل ذلك الاستقلال. وتربى جيلي على تلك القيم في مدرسة الفتح القرانية ثم في الفصول الأولى من التعليم الزيتوني، بل كان الاستقلال في تقديرنا قطعا مع الذوبان في الاستعمار اي في الواقع عشنا نحلم بالاستقلال كاستعادة الهوية الى جانب اكتساب الحداثة. ثم ان أحد أقاربي كان من المقاومين واسمه رحمه الله عثمان سعيد، الذي أصبح بعد الاستقلال ضابطا في الحرس الوطني كان كثيرا ما يختبأ في بيتنا على السطوح في بداية الخمسينات وكنت ألامس بندقيته الرشاشة بأعجاب طفولي وكانت والدتي تخفيها خوفا من عصابة اليد الحمراء الارهابية التي كانت تغتال الوطنيين. هذا هو نموذج المقاوم الدستوري الذي عرفته الى جانب المعلمين الذين كانوا يدرسون لنا في المدرسة القرآنية (الفتح) وهي مدرسة وقفية وكانوا من مؤسسي الحزب الدستوري بقصر هلال عام 1934 منهم رحمهم الله محمد بودخان والطاهر عطاء الله والشاذلي عطاء الله و هم ممن عرفناهم مسلمون ملتزمون معتدلون ودستوريون وطنيون صادقون. هذا هو المناخ الذي نشأنا فيه فلا فرق بين الدين واللغة العربية والعروبة والهوية والاستقلال. وبورقيبة نفسه كان بالنسبة لجيلي مثالا للمقاومة ويلقب بالمجاهد وحين كنا نزور جزيرة جالطة بعد الاستقلال والتي نفي فيها الزعيم كنا نقول كيف ظل هذا الرجل صامدا على هذه الصخرة في البحر لا يلين ولا يخضع ونرى في ذلك الصبر موقف الزعيم المسلم الوطني. وعلمنا معلمونا أنه كان قاد معركة التجنيس عام 32 وكذلك كنا نقرأ في صحافة الاستعمار بأنه متهم بالارهاب الاسلامي، ففي عدد من مجلة (باري ماتش) الباريسية صادر في أبريل 1952 كتب مدير المجلة (رايمون كارتييه) حرفيا يقول: انظروا الى عينيه الزرقاوين انهما يخفيان ارهابيا اسلاميا. هذا هو بورقيبة الذي أحببناه. ثم حين تحقق الاستقلال كنا نرى في بورقيبة زعيما مسلما مثيرا للجدل الا أنه حقق كثيرا من مقاصد الشريعة ومنها أنه سوى بين المواطنين بإلغاء القبلية والاقطاع ثم أعطى الأولوية المطلقة للتربية والتعليم والصحة فنشأ في بلادنا رجال ونساء متعلمون وواعون قادرون على تحمل المسؤوليات. وظلت جمهورية الاستقلال الى اليوم تعتمد على الفصل الأول من دستورها الذي يقر بأن تونس دولة حرة مستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية إلى أن إنحرفت لدينا فئة علمانية تمكنت من السلطة منذ بورقيبة وبن علي وقايد السبسي سلكت منهجا حضاريا مختلفا بتعلات باطلة. [email protected]