أكاد أجزم بأن ما بلغته تونس رائدة الحريات والربيع العربي من أزمات راهنة لم يسبق أن عاشتها لا هي ولا أية بلاد عربية من قبل، وذلك عند تشخيص ما أصاب هذه الدولة المدنية العريقة من أمراض مستعصية وضعت شعبها الناضج المسالم أمام عواصف غير متوقعة أملي أن تغالب تياراتها المتصارعة وتنجو بمؤسساتها الهشة من الردة والتخريب. أصف الحالة التونسية الراهنة بكل موضوعية وحياد فأقول إن شعبنا دعي حسب الدستور الى الاقتراع لاختيار رئيس للجمهورية بعد أن جد فراغ نهائي في منصب الرئاسة بوفاة المغفور له الباجي قايد السبسي و انقلبت الآية بتقديم الرئاسيات على التشريعيات لهذا السبب الدستوري القاهر والملزم فتسارع المتنافسون لتقديم ترشحاتهم، وبلغ عددهم المائة قامت الهيئة المستقلة لتنظيم الانتخابات بغربلتهم وإبعاد حوالي 70 منهم واستقر الأمر على 26 مرشحا منهم سيدتان. هكذا بدا المشهد واضحا لا لبس فيه و لا غش إلى أن نظمت وسائل الإعلام الوطنية مناظرة موفقة بين المترشحين تكلم كل منهم خلالها محاولا إقناع الناخبين برجاحة برنامجه وأهليته لحكم البلاد وتساوت حظوظ الجميع بالقانون العادل إلا أن حدثا مهما وقع قبل عشرة أيام من الاقتراع يتمثل في إيقاف أحد أبرز المرشحين (أقول أبرز لأن عمليات سبر الأراء قدمت اسمه ضمن الأوائل في نوايا التصويت) و هذا الإيقاف جاء تلبية لصدور بطاقة جلب في حقه لا بعد الحكم والإدانة بل قبلهما لأنه مشتبه في ارتكابه جريمتي تبييض الأموال والتهرب الضريبي! وانطلق جدل سياسي و دستوري و قضائي حول هذا الإيقاف لأربعة أسباب فاجأت الشعب و النخب وهي 1) المترشح المشتبه فيه يملك قناة تلفزيونية واسعة الإنتشار لديها تأثير بالطبع على الناس 2) المترشح أنشأ منذ ثلاث سنوات جمعية خيرية توزع الإعانات على الفقراء وهم النسبة الأكبر في المجتمع التونسي مع الأسف بسبب فشل الدولة في ملئ هذا الفراغ الإجتماعي الخطير و إخفاقها في نجدة المعوزين فجاء المترشح بجمعيته لسد الفراغ بعد وفاة ابنه خليل وترحما عليه و منح للفقراء من أموال المتبرعين طبعا ما لبى كثيرا من حاجياتهم كما أنشأ فرقا طبية قامت بفحص المرضى مجانا وإجراء عمليات جراحية في الأرياف النائية التي لم تطأها أقدام الحكومة! و توفير الكراسي المتحركة للمعاقين 3) المفاجأة المدوية هي فوز مرشحين إثنين بالمنزلة الأولى و الثانية حسب عدد المقترعين و تم شطب جميع المرشحين الآخرين الذين توقعوا الفوز لأنهم داخل منظومة الحكم أو مسنودون من أحزاب ممولة بمبالغ كبيرة أحيانا مجهولة المصدر حسب تقارير منظمات دولية كما سقطت أسماء معارضين رسميين للمنظومة يملكون نفس الطموحات و التمويلات! مع بلوغ السجين المرتبة الثانية و حصوله على المشاركة مع منافسه في الدور الثاني الحاسم للرئاسيات! 4) خلق هذا الإيقاف معضلة دستورية لا حل لها وهي إيجاد وضع عدم التكافؤ بين المرشحين في مخالفة صريحة للدستور و للقانون الإنتخابي لأن أحد الإثنين في السجن و الثاني حر طليق! و كما كان متوقعا فإن أغلبية الرأي العام الوطني تعتقد عن صواب أو عن خطإ أن وراء هذا الإيقاف مناورة من رئيس الحكومة يوسف الشاهد و الاحزاب المساندة له و لكن لا بد من الإعتراف أن الإيقاف محل جدل و تلاسن تجاوز الحدود التونسية الى منظمات حقوقية أممية و أوروبية و أمريكية مهتمة بالشأن التونسي لأنه وضع وراء القضبان متهما لم تثبت إدانته و لم يصدر في حقه حكم لا إبتدائي و لا استئنافي! في هذا المناخ الضبابي المخيف سيصوت التونسيون لفوز أحد المرشحين الإثنين: إما للسيد قيس سعيد القادم من الجامعة محملا بتدريس القانون الدستوري وليست للرجل خبرة معروفة في تسيير شؤون الدولة و لا ماض له كمعارض للاستبداد في العهدين البورقيبي و النوفمبري بل هو وجه من خارج المنظومة التي كرهها التونسيون لأنها فاقمت المشاكل و أنزلت الطبقة الوسطى الى درجة الفقر وإما رجل أعمال ناشط سياسيا وهو من المنظومة منذ عهد الرئيس بن علي لكنه في السجن! أتوقع في هذه الحالة الغريبة والطارئة وغير المسبوقة أن تمر بلادي بمنطقة مطبات جوية صعبة كما يقال في الطائرة تحتاج لربط الأحزمة و إعادة المقاعد الى وضعها المستقيم و انتظار مزودات الأكسجين تنزل تلقائيا من فوق وتحسس سترات النجدة الموجودة تحت المقعد! اللهم عونك وهداك.