ذكرني به ابنه إسكندر لما نشر صورته وذكرى وفاته وكان من أصدقائي المقربين ممن حافظ على مودتي ومحبتي وكنت أبادله نفس الشعور إلى وفاته. وهو المربي خليفة المستيري رحمه الله، كان يكبرني على الأقل بعقد من الزمن ولكنه كان يحرص على الالتقاء بي في أي مناسبة ومنذ كنت تلميذا ثم طالبا أو مسؤولا في الدولة برتبة معتمد ثم وال أو نائبًا أو محام، وكان لا يترك فرصة للسؤال عني وزيارتي أنما كنت وخاصة لما اقضي عطلتي الصيفية بمسقط رأسي طبلبة التي ما زلت احن اليها دائما ولكن العمر تقدم بي ولم اعد أقدر على التنقل والمواظبة على زيارتها. ومما بقي في خاطري طرافته وخفة ظله، جمعتني به قرابة، وأمه عليها رحمة الله عمتي وكانت مختصة في صناعة المصاغ العربي الذي كنا نكتب عليها ألواحنا التي كنا نحفظ منها جزء من القران لدى المؤدب. لم تكن حواجز السن تحول دون التقائنا لشرب كاس شاي أحمر معقد ونتقاسم ثمن حشيشته حسب عدد الحاضرين بالعدل بيننا لتواصل الصحبة بيننا بدون قلق. اتذكر انه كان مغرما بلعب الورق وكثيرا ما يخسر ويدفع ثمن المشروب للجماعة بروح رياضية خلافا لغيره. كنا نقضي عادة عطلة الصيف معا مع مجموعة من المعلمين خاصة ونجلس على حصير أمام محل لتجارة العطرية خاص يشاركنا صاحبه في جلستنا أمامه ونتبادل الحديث بيننا وكان لا يبخل علينا بطرفة من طرفه الغني بها لكثرة مغامراته وتنقلاته وسفراته. اتذكر انه كان مثقفا ومطلعا وتكوينه العلمي راسخا إذ درس بالزيتونة في أيامها وأتقن علومها من نحو وصرف وبلاغة وبذلك اشتهر بالبراعة وحفظ متونها والجواب عن اغلب الأسئلة. كما اتذكر انه كان مؤمنا متفتحا يفسر الدين حسب فهمه، سخي مع غيره ولا يتحدث بذلك ولكنني أعرف عنه الكثير من ذلك، إذ كان يكفل الصغار الموكول له رعايتهم القادمين من أرياف الجهة وبالخصوص من السواسي وشربان متعهدا بأكلهم وملبسهم على وجه الفضل ولا يتحدث بذلك عنهم لأحد، ويمكن لبعض المتخرجين من تلكم الأرياف لو تيسر لهم الاطلاع على ما أكتب عنه سيتذكرونه ويترحمون على روحه. كان معلما باللغة العربية بارزا لسنوات عدة بقابس والجزائر وطبلبة خاصة وتخرج على يديه نخب ما زالوا يذكرونه حتى من خارجها وكان المرحوم الهادي بوشماوي رجل المال والأعمال المشهور دائما يسألني عنه ويذكر لي سمعته التي بقيت ببوشمة بقابس أيام عمله بها معلما. ومن الطرائف التي بقيت عالقة بذاكرتي انه كان يملك سيارة خاصة وكان ذلك نادرا بقريتنا ولم يكن يمنعها عن أحد يحتاجها بشرط دفع ثمن الوقود الذي تستهلكه على نفقته، وأتذكر اتذكر رحلة قمنا بها لأغلب شمال تونس وغربها وكنا وقتها جماعة اخترنا بعضنا وأتذكر منهم الحاج فرج بن فضل وعبد الرزاق بقية وعبد الحميد التركي ومحمد الحبيب بيوض وصالح بالكحلة كسائق للسيارة معنا والمترجم له وكاتب هذه الأسطر الذي بالمناسبة يترحم عليهم كلهم بعدما فارقوا هذه لدنيا الفانية. لقد دامت تلك الرحلة نحو أسبوع بدأنها من طبلبة نحو العاصمة وتحولنا لعين دراهم وطبرقة وسوق الأربعاء (جندوبة حاليا) ثم الكاف ومكثر وسليانة وباجة والروحية وزغوان وماطر وبنزرت ثم عدنا إلى القيروان وسيبطله والقصرين ورجعنا إلى المكان الذي انطلاقنا منه طبلبة، وكنا محل حفاوة وإكرام من معارفنا من طبلبة وغيرها، وأتذكر منهم على سبيل الذكر الطيب تقية والبشير حدادة والناجي بيوض رحمهم الله وقد اعتنوا بنا أكلا ومبيتا على حسابهم. واعود للمترجم له لأذكر بما عرفته عنه من حب للفن ومواظبة على الاستماع إلى اصوله من صالح عبد الحي وأم كلثوم كوكب الشرق وكان يحب الاستماع إلى مقرئي القران المصريين أبو العينين شعيشع وطه الفشني خاصة وأظنه أطلق اسمه على ابن.