حين خرّ البوعزيزي صريعا ملتحفا نارا بحجم الجحيم،لم يكن يتوقّع أنّه سيفتح بجسده المتفحّم باب العرش من جديد أمام المرحوم الباجي قايد السبسي ليدخل قصر قرطاج متوّجا نجاح تجربة تونس الديمقراطية.. وهنا تعود بنا الذاكرة إلى الوراء يوم عجز محمد الغنوشي عن إكمال إدارته للسلطة بعد خلع بن علي،واضطره اعتصام شباب القصبة الأول والثاني على الاستقالة،قي تلك الفترة من الإشراقات الأولى للثورة التفت الرئيس المؤقت فؤاد المبزع إلى صديقه القديم السبسي وعرض عليه رئاسة الحكومة.ورغم أن راشد الغنوشي وصف ذلك التعيين بإخراج نسخة من الأرشيف،غير أنّ السبسي نجح في لفت أنظار العالم،ووفّر-ببراعة واقتدار-فرصة لتنظيم انتخابات نزيهة وديمقراطية انتهت بقيام المجلس الوطني التأسيسي.كما سلّم الحكومة لأحزاب الترويكا بطريقة سلمية وحضارية.. واليوم.. رحل"البجبوج"رحمه الله وولج عتبة قصر قرطاج رئيس آخر منتخَب ديمقراطيا.. ولكن للثورة استحقاقاتها وأهدافها،كما للكرسي الوثير بقصر قرطاج أثمان غالية تدفع بمن يجلس عليه إلى إعادة النظر في تفاصيل الواقع والعمل على تغييره نحو الأفضل من خلال توفير الحد الأدنى من شروط الاستقرار،ومن ثم ادخال النظام السياسي الجديد مرحلة الاختبار الفعلي لمعرفة مدى قدرته على احترام أصول المنظومة الديمقراطيّة… في هذا السياق يمكن القول أنّ الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة خلّفت وراءها جدلا واسعا في صفوف الطبقة السياسيّة والرأي العام.لهذا فإنّ من بين المهام العاجلة والمؤكدة المطروحة على الأستاذ قيس سعيّد (رئيس الجمهورية التونسية) أن يعمل جاهداً على أن يتجاوز ذاته وحساباته،وأن يتخطّى آثار الحملة الانتخابيّة وما قبلها ليكون رئيساً لكلّ التونسيين،ويجعل مصالح البلاد العليا المرجع الملزم له،وأن يعمل بقوّة مع بقيّة المؤسسات ومكوّنات النخب السياسيّة والمجتمع المدني من أجل إخراج تونس من دائرة الصراع وتعميق توجهها نحو تغليب الوفاق على الغلبة.. من هنا،ستركز انتظارات التونسيين للسنة الجديدة،وما بعدها،على الحفاظ على المنجز الأساسي للثورة أعني التعددية السياسية والمنظومة الحقوقية وتداول السلطة،بالإضافة إلى ملفات أساسية،تتعلق بالشأنين الأمني والاقتصادي الشائكين،وهو ما يقتضي تشكيل حكومة مقبلة تتمتع بأقصى ما يمكن من التوافق الوطني،والتمثيل البرلماني الواسع،فالوضع الحالي في تونس لا يحتمل قرارات فردية،أو تمرير أجندات حزبية أو فرض تصورات أيديولوجية،وإنما السعي نحو تمشٍّ تدريجي لبناء نظام سياسي مستقر،قادر على الاستمرارية،والأهم أن يكون قادراً على الإنجاز والبناء،في ظل الوضع المأزوم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً،وضعف المشاركة السياسية،وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة،وتراجع مستوى التأطير الحزبي للمواطنين.. وبغض النظر عن المنطق الحسابي،ورهانات الربح والخسارة،لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الاستقرار،بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب مما سيفضي،مستقبلاً،إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي،كما أن تجربة الحكم المقبلة التي ستظهر مؤشراتها،بعد تشكل الحكومة المقبلة،لن تكون سهلة،بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها،خصوصاً في الملف الاقتصادي،وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة،إذا أرادت الحكومة القادمة أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً،في إدارة ملفات المرحلة المقبلة.. ما أريد أن أقول؟ أردت القول بأنّ الديمقراطية التونسية الناشئة تمكنت-ببراعة واقتدار-من خوض تجاربها الانتخابية بنجاح،من أجل إرساء منطق الانتخاب،بدل فكر الانقلاب،والاستحواذ غير الشرعي على السلطة،وهو أمر يمثل درساً مهماً لكل متابعي التجربة التونسية على الصعيد الديمقراطي،حيث يمكن اعتبارها دليلاً على حيوية المجتمع السياسي،وسرعة تشكله،وسيره بخطوات واضحة نحو الوضع الديمقراطي النهائي،وينبغي أن ندرك أن الديمقراطيات،جميعاً،إنما قامت على نمط من الإكراهات،وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة،لتستقر،في النهاية،على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبتها بعضها بعضاً..